في إحدى صباحات يناير الباردة، استقل الشاب العشريني القطار من الإسكندرية إلى القاهرة يقوده الشغف ويملؤه الفضول ليرى ذلك المعرض الذي انتشرت أخباره على صفحات الجرائد ولا تمل الإذاعة من الحديث عنه.
كان الطريق هادئا على كوبري قصر النيل كعادة تلك الأيام رغم الحركة الاستثنائية، فيما يسير إبراهيم الذي وصل لتوه متجها إلى أرض الجزيرة، حيث معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يعقد للمرة الأولى.
منذ 50 عاما في 1969، لم يفوت الأديب إبراهيم عبد المجيد أول معرض للكتاب في مصر ليس بصفته كاتبا سيصدر لاحقا في يناير من العام ذاته رواياته الأولى، لكن بصفته قارىء يبحث بنهم عن المعرفة.
"كانت الجرايد والتليفزيون والإذاعة والدنيا كانت مقلوبة".. هكذا يوضح الكاتب الكبير لـ"مصر العربية" مدى الاحتفاء المجتمعي بالنسخة الأولى لمعرض الكتاب التي أشرفت عليها الدكتورة سهير القلماوي وثروت عكاشة وزير الثقافة حينها.
لم يكن الكاتب الكبير تخطى حينها حاجز الـ 23 عاما، لكنه كان يستعد لإصدار روايته الأولى "في الصيف السابع والستين" بعد أن تخرج في قسم الفلسفة بكلية الأداب بجامعة الإسكندرية.
يقول الأديب الحاصل على جائزتي كتارا للرواية العربية ونجيب محفوظ إنه عندما علم بأمر المعرض التي انتشرت أخباره في الأرجاء، حسم أمره بالحضور في أولى أيامه كفرصة للبحث عن تلك الكتب التي لم تكن موجودة في الإسكندرية حينها.
الحنين يأخذ عبد المجيد إلى ذلك اليوم، حيث الهدوء يغلف منطقة الجزيرة مكان دار الأوبرا حاليا، إذ لم يكن يسكن القاهرة سوى 2 مليون نسمة على أقصى تقدير بينما تعداد مصر كلها يتراوح بين 28 و 28 مليون.
الوصول إليه كان سهلا.. يضيف عبد المجيد الذي يتذكر كم كان المعرض في نسخته الأولى بسيطا وغير مزدحم سواء بدور النشر أو بالمواطنين لا يتطلب سوى ساعتين فقط لتتجول في أجارئه على نقيض النسخ اللاحقة حتى وصلنا إلى اليوبيل الذهبي.
" 7 جنيه فقط".. هي كل ما حمله معه الأديب الكبير من نقود ليزور المعرض الأول، يبدو هذا المبلغ بسيطا جدا حتى أنه يساوي ثمن تذكرة مترو (المرج -حلوان)، غير أنه حينها كان يكفي لشراء نحو 100 كتاب، بحسب إبراهيم عبد المجيد.
إبراهيم عبد المجيد يقول إن أسعار الكتب كانت تترواح حينها من 5 قروش حتى 25 قرشا، ما جعله يستطيع شراء عدد ضخم من الكتب بجنيهاته السبعة، بنبرات تشوبها الحسرة يستطرد: (دلوقتي عشان تروح المعرض مبيكفيش حاجة).
بعدما اشترى من المعرض كل ما يبحث عنه في الإسكندرية ولم يجده خاصة الكتب المترجمة، قضى عبد المجيد ليلته عند صديق له يسكن في شارع الثورة بمدينة نصر، حيث لم يكن هناك آنذاك سوى عمارتين.
" زحمة رهيبة جدا".. هكذا يصف الروائي الكبير معرض الكتاب حاليا حتى أنه لا يستطيع زيارته سوى مرة واحدة فقط طوال أيام انعقاده، مؤكدا أنه لن يزور المعرض في نسخته الخمسين سوى مرة واحدة أيضًا.
يعود إنشاء معرض القاهرة الدولي للكتاب إلى فكرة خطرت على الراحل ثروت عكاشة عندما كان وزيرا للثقافة في 1969 وكانت الراحلة الدكتورة سهير رئيسة للهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، في الوقت الذي كانت تحتفل فيها القاهرة بعيدها الألفي.
ولما كانت أجواء نكسة يونيو 1967 تخيم على سمائها، قررا أن يكون الاحتفال بألفية القاهرة ذا مذاق خاص، فأقاما أول معرض للكتاب بأرض المعارض في الجزيرة – دار الأوبرا حاليا- على مساحة 2000 متر مربع.
وشارك فيه 100 ناشر، و 5 دول أجنبية فقط، بينما يقول الدكتور عماد عبد الراضي في مقال له بصحيفة الأهرام إن الدول المشاركة فيه 30 ألف جنيه مقابل مساحات العرض، حيث كان سعر تأجير المتر فى المعرض عشرين جنيها فقط.
ويضيف الدكتور عماد عبد الراضي رئيس القسم الثقافي المناوب في صحيفة الأهرام في مقاله المنشور في يناير 2017 إن أنه تم التعامل مع المعرض بشكل سياسي ، إذ رأى أصحاب فكرة انطلاقه أن الثقافة وتبادل الخبرات المعرفية من وسائل مواجهة العدوان الصهيونى على أراضينا.
غير أن "إسرائيل" أعلنت آنذاك وضع الناشرين الأجانب الذين أعلنوا مشاركتهم بالمعرض فى القائمة السوداء، ومنع ما يصدرونه من كتب ومؤلفات من التداول فى الأسواق "الإسرائيلية"، بحسب عماد عبد الراضي.
نتيجة لذلك، أطلقت افتتاحيات الصحف يومها كلمات السعادة لانطلاق الحدث الذى أقلق الكيان الصهيوني ، فخرجت الصحف تقول: "اليوم يفتتح أول معرض دولى للكتاب فى الشرق الأوسط بأرض المعارض بالجزيرة.. بعد أن نجحنا فى شل يد الصهيونية العالمية التى ظلت تعمل للحيلولة دون إقامته"، بحسب الدكتور عماد عبد الراضي.
ومنذ عام 1969 حتى عام 1983 أقيم المعرض الدولي للكتاب بأرض المعارض الدولية بالجزيرة، ثم انتقل المعرض إلى أرض المعارض الدولية بمدينة نصر اعتبارا من المعرض الدولي السادس عشر للكتاب عام 1984، بينما افتتحته وزيرة الثقافة إيناس عبد الدايم هذا العام في مركز مصر للمعارض الدولية بالتجمع الخامس.