صدر حديثًا للشاعر المصري منتصر عبد الموجود، ديوان "في مديح البلدات الصغيرة" عن "الآن ناشرون وموزعون"، بعمّان. يشتمل الكتاب الذي يقع في نحو سبعين صفحة من القطع الوسط، على مجموعة من النصوص المفتوحة التي كتبها الشاعر في مناخات مختلفة ضمن تأملات للواقع المحيط بكل ما يضج من حراك وسكون كفعلين متضادين لطبع الحياة.
في هذه النصوص يبقى الكاتب رهين اهتمامين يتصلان بوسيلة التعبير التي تقع بين الشعر الذي صدر له فيه "حروب وهزائم"، ثمة أشياء لن يجربها"، و"الحنين.. سلة المفقودات"، والسرد الذي يحضر لروايته الأولى التي تحمل عنوان" معلم الآلة الكاتبة ولونه الواحد".
وفي نصوص الكتاب، يترك الشاعر للكلمات أن تتناسل وتتوالد بعفوية وهي ترصد الطرقات والمحال والشوارع وتغدو جزءا من الكائنات التي تتحرك في المكان. ويكتب على الغلاف الأخير: "الطريق التي عبدت بوطء أقدامهم جيئة وذهابا، تصر على اختيار نفسها كل شتاء، علها تنجح في الاحتفاظ بآثارهم على سطحها الموحل الذي يماطل معولا على ذاكرة هشة، تبرئ الجميع من تهمة الرحيل".
في كتاباته ثمة رهان على الأثر الذي ينقش ليس في ذاكرة الكائن، بل في ذاكرة المكان التي تقول ما لم يقله الإنسان لسبب ما، ورصد وامض للحظة أو اللحظات التي يسرقها الزمان دون أن نلتفت إليها في ضجيج الحركة والأصوات والجلبة التي يركض فيها الناس إلى ما لا يتيح لهم أن يتوقفوا لتأمل الأشياء.
ويقول في نص:
"بخطوات قليلة نبلغُ التخوم...
حيث بيوتٌ تزدهي بالفراغ الأكثر كثافة
حيث المعصيةُ المشروطة بالثنائية تتوارى في الزراعات
حيث الغريبُ الوحيد يغزل قميصًا من العزلة والصمت
ويغزل بقاء من الصدقات
وحيث جلوسنا على ناصية بمحاذاة الزمن
تمكّننا من قراءة ماكس جاكوب بصوت عال....
هكذا ظل يردّد طوال الطريق غافلًا عن حقيقة التخوم.... خامة تشتغل عليها أصابعُ الزمن".
هو الرهان على المتخيل، بشارة ما يقول ماكس جاكوب: "أنا أعرف نفسي، سوف أراهم في كل شيء، سوف أراهم في كل شيء هادئ، ما عدا ملامحي"، وهي الرؤية التي تبدد الواقع لمصلحة المتوقع بالنأي بعيد عن الضجيج الذي يسرقنا منا، للوقوف أمام الذات وتفحصها ومعرفتها بأثر ما تركت في المكان .
وفي النصوص الخافتة ، ثمة صوت مبحوح أو مجروح، ونازف بالصمت والعزلة التي تكابد استعادة المكان واستعادة ملمح الذات المنسية على تخوم الأشياء.
وكما كانت النصوص برزخا للكتابة بين الشعر والسرد، ظلت البلدات الصغيرة في برزخ الذاكرة متخيلا للكتابة التي تعمر هندستها الكلمات.
"في مديح البلدات الصغيرة"، هروب من الضجيج، والذاكرة المجروحة إلى كينونة الإنسان ببراءته وطمأنينته التي تمنح الدهشة في المتخيل الذي يتخفف من ثقل الواقع بحنين إلى طفولة الأشياء.
ومن مناخات النصوص: "يبددُ النهارَ بالنومِ، شاكرًا للأرضِ عَدَمَ البوحِ بِوَقْعِ خُطُوَاتِه وَاتساعَها لعينيه المفتوحتين على نَفْسٍ، تَضَعُ كلَّ أَثْقَالِ جَسَدِه في سَلَّةِ التخييلِ، حيث مساراتٌ تُطِيلُ مُنْحنياتُها نَزْفَ وعيهِ بِوَاقِعٍ، لم يبقَ منه سوى غيمةٍ خريفيةٍ، ظَّل يَتَرصَّدُهَا مُتَوجِّسًا من شتاء قادمٍ، ستفسدُ أمطارُه دفقةَ حنو سري، تغلفُ به الأرضُ نظرتَه الحزينةَ؛ فيسترد الواقعُ كامِلَ حضورِه بِمطالعةِ بركة مطرٍ، تذكّرُه أنَّ المرآةَ من طينةِ النهارِ الذي يتحاشاه، كلما نظرَ في صَفْحَتِها، لا يرَى شيئًا...".