مع حلول شهر رمضان الكريم تجد اللافتات ارتفعت في الشوارع باسم "موائد الرحمن"، تتراص الطاولات والمقاعد، ومع آذان المغرب يجلس عليها كل عابر، هم أُناس لا يعرفعون بعضهم البعض، ولكن جمعتهم مائدة الرحمن، فهكذا الناس اعتاد منذ قدم الزمان.
حين تسير في الشوارع عند الإفطار وترى هذا المشهد، والناس مجتمعون على مائدة واحدة، منهم الفقير ومنهم العابر، تجد في نفسك شيء من السعادة بأنه لايزال هناك خير بين الناس، ويتراحمون فيما بينهم، ولكن هل تعلم أن فكرة مائدة الرحمن لها أصل وحكايات وتاريخ طويل وليست فقط في عصرنا الحالي؟.
بداية اختلف المؤرخون حول بداية موائد رمضان، فمنهم من أرجعها إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أرجعها إلى عصر أحمد بن طولون، وآخرون نسبوها إلى عهد المعز لدين الله الفاطمي، ورويات أخرى تشير إلى بدايتها في عصر هارون الرشيد.
يروي المؤرخون أنه في النبي صلى الله عليه وسلم أقام مائدة للوفد الذي أتى إليه للمدينة المنورة من الطائف لإعلان إسلامهم، وظلوا فترة بالمدينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل لهم إفطارهم وسحورهم، مع الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه، وذلك بحسب دراسة تاريخية أعدها عضو اتحاد المؤرحين العرب إبراهيم عناني.
ومن بعد نبي الله صلى الله عليه وسلم سار على نهجه الخلفاء الراشون، وفقا لـ"عناني"، إذ يقول إن عمر بن الخطاب، رضي الله هعنه، أقام أول دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء والمساكين وعابرو السبيل، وذلك في العام السابع عشر الهجري.
وتوصل "عناني" في دراسته إلى أنه في مصر كان الإمام الليث بن سعد، إمام مصر ومن أثريائها يفضل تناول الفول في رمضان، في حين يقدم لخدمه أشهي الأطعمة يقيم موائد الرحمن"، واشتهر بتقديم الهريسة «هريسة الليث».
ويستطرد أنه في عام 880 م فى عهد الوالي "ابن طولون" كان إلى جوار مسجد ابن طولون حديقة من الأشجار والورود، وملحق بها حديقة للحيوان تضم السباع وابن أوي وحيوانات أخرى، وفي هذه الحديقة وتحت أشجارها يقيم ابنه خيماروية مآدب الإفطار والسحور طوال شهر رمضان.
واستمرت الموائد في العصر الفاطمي، وكان يُطلق على موائد الرحمن الخاصة بالفاطميين "دار الفطرة"، وكانت تقام الأسمطة 175 مترًا وعرضها 4 أمتار في عهد العزيز بالله الفاطمي، وفي عام 975 م بعث إلى أمير دمشق يطلب قراصيا بعلبكية، فعاد الحمام الزاجل وفي إبط كل واحدة «حبة قراصيا".
وخلال العصر الفاطمي، بحسب "عناني" ازدهرت موائد الرحمن واهتم بإقامتها الملوك والأمراء، وتقول كتب التاريخ إنهم كانوا يخرجون من بيوتهم نحو ألف ومائة قدر من مختلف ألوان الطعام لتوزع على الفقراء والمساكين ولتمد بها الموائد، وقلدهم في ذلك الأغنياء وأصحاب الأسر المتوسطة بتجهيز الطعام أمام منازلهم وفي حجرات الاستقبال لانتظار ضيوف الرحمن من الفقراء والمسافرين.
وفي عهد المماليك ظلت فكرة موائد الرحمن قائمة، وكان السلطان حسن يقدم كل يوم من أيام رمضان 117 ذبيحة؛ لأنه بدأ في تقديم الذبائح منذ أن كان عمره 17 سنة فأضاف عليها مائة واستمر السلاطين من بعده يقدمون الذبائح في رمضان.
وكذلك العصر العثماني، الذي انتشرت فيه الموائد أمام البيوت، فكان أمام كل مائدة أمير، وتوسع في ذلك الوالي العثماني عبد الرحمن كتخدا الذي أطلقوا عليه إمام الخيرات، وفقا لـ"عناني".
وبحسب ما توصلت إليه الدراسة، فإن قائد المماليك كان يوزع كل يوم في رمضان 12 ألف رغيف ويشرف بنفسه على توزيع الصدقات، واستن الملك الظاهر بيبرس سنة طيبة وهي توزيع عدد من أحمال الدقيق والسكر والمكسرات ولحم الضأن على الفقراء حتى يتمكنوا من تناول الطعام في بيوتهم.
وفي العصرين المملوكي والعثماني، قال عناني إنها كانت توزع أطباق الحلوى التي تضم الكنافة والقطايف في الخوانق والربط وهي الأماكن التي يوقف فيها الواقفون أموالهم وأملاكهم لإطعام الفقراء واشترط الواقفون توزيع الحلوى على القاطنين كل ليلة جمعة من رمضان.
بينما يروي مؤرخون آخرون أن أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية، هو صاحب فكرة موائد الرحمن، فهو كان شديد العطف على الفقراء والمساكين طوال العام، لاسيما خلال شهر رمضان، وكان يأمر بإقامة موائد للفقراء الصائمين وفي السنة الرابعة من ولايته أقام أول مائدة رحمن فى مصر.
وبحسب روايات تداولتها منتديات تاريخية، فإنه في أول يوم رمضان جمع ابن طولون كبار التجار والأعيان، ويقال إنه جمع الفقراء معهم على مائدة كبيرة بها أشهى الأطعمة.
وخطب بن طولون فيهم قائلا :"إننى لم أجمعكم حول هذه الأسمطة إلا لأعلمكم طريق البر بالناس، وأنا أعلم أنكم لستم فى حاجة إلى ما أعده لكم من طعام وشراب، لكننى وجدتكم قد أغفلتم ما أحببت أن تفهموه من واجب البر عليكم فى رمضان، ولذلك فإننى آمركم أن تفتحوا بيوتكم وتمدوا موائدكم وتهيئوها بأحسن ما ترغبونه لأنفسكم فيتذوقها الفقير المحروم".
لكن خبير الآثار الدكتور عبدالرحيم ريحان له قول آخر، إذ يؤكد أن فكرة موائد الرحمن ترجع إلى الولائم التي كان يقيمها الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان في عهد الفاطميين، وكان يُطلق عليها "سماط الخليفة"، وموائد الرحمن.
وبحسب ريحان، كما قال في تصريحات سابقة لـ"العربية نت"، فإن القائمون على قصر الخليفة الفاطمي كانوا يوفرون مخزوناً كبيراً من السكر والدقيق لصناعة حلوى رمضان مثل الكنافة والقطايف وغيرها.
ويقول ريحان إن "دار الفطرة" كانت مهتمها إعداد الكعك وما شابه لتوزيعه في رمضان والعيد، وتعد بالقناطير لتوزع على جموع المصريين في القاهرة، كما كان يحرص الخليفة على إقامة مائدة إفطار رمضان تسمى سماط، بحضور رؤساء الدواوين والحاكم والوزراء.
وكانت القاهرة في ذلك الوقت مدينة خاصة للخليفة وخاصته وفرق الجيش المختلفة طبقاً لدراسة أثرية لعالم الآثار الإسلامية الدكتور على أحمد الطايش، أستاذ الآثار والفنون الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة.
وقال "ريحاني" إذا جاء اليوم الرابع من شهر رمضان يقام السماط كل ليلة بقاعة الذهب إلى السادس والعشرين منه ويستدعي له قاضي القضاة توقيراً له، ويحضر الوزير فيجلس في صدر السماط فإن تأخر كان ولده أو أخوه وإن لم يحضر أحد من قبله كان صاحب الباب.
وينقل عن المؤرخ المقريزي عن سماط رمضان بقاعة الذهب، "حيث تقرر أن يتم عمل 40 صينية حلوى وكعك ويعمل خمسمئة رطل حلوى يتم توزيعها على المتصدرين والقرّاء والفقراء ثم يجلس الخليفة في القصر، ويتوافد كبار رجال الدولة ويتلو المقرئون القرآن الكريم ثم يتقدم خطباء الأزهر وجامع الأقمر مشيدين في خطبتهم بمناقب الخليفة، ثم ينشد المنشدون ابتهالات وقصائد عن فضائل الشهر الكريم".
فيما رجح مؤرخون آخرون أن موائد الرحمن تعود بدايتها إلى العصر العباسي خلال حكم هارون الرشيد، إذ كان يقيم موائد الرحمن بحدائق قصره.
وتشير الروايات إلى أن "الرشيد" كان يتجول بين الموائد متنكرا، ليسأل الصائمين عن رأيهم فى جودة وكفاءة الطعام ليردوا بصدق دون مجاملة.
وهكذا تناقلت موائد الرحمن من عهد إلى آخر واستمرت حتى زمننا هذا رغم غلاء المعيشة، إلا أن أهل الخير لايزالوا يحرصون على إقامتها، وتجدها في كل شوارع مصر.