"اكتب لأنني أحب الكتابة ..وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني.. تدهشني.. تشغلني.. تستوعبني.. تربكني.. وتخيفيني وأنا مولعة بها.."؛ عبارات دونتها الروائية والأستاذة الجامعية الراحلة الدكتورة رضوى عاشور، التي خطفت القلوب والعقول بما خطته أقلامها على مدار سنوات وسنوات، ما بين مشاهد وأفكار تلمس واقع يعيشه الكثيرون، بحروف وكلمات تنسجتها أناملها إلى جوار بعضها البعض ليخرج من تحت يدها الكتاب تلو الآخر.
غابت "رضوى" وظلت روايتها حية بعدما تركت إرثًا كبيرًا منها، لم تكن الفتاة التي تعلمت بالمدارس الفرنسية حياتها هينة بالمرة، فقد مرت بالكثير من التحديات والصعوبات، بحرمانها من حبيب العمر فلسطيني الجنسية، 7 أعوام كاملة عقب وضعها مولودهما الأول "تميم"، لم يقتصر الأمر على الزوج فقط بل الإبن ايضًا.
كان صوت "رضوى" عاليًا في كتابتها فهي لم تفضل أو تختر يومًا السير داخل الحيط، وكانت دائمًا ما تتحدث باسم الفئات المهمشة، وسرعان ما تعبر عما تراه في كتابتها.
تزامنًا مع ميلاد "رضوى عاشور" نتوقف عن محطات سريعًا في سيرتها الذاتية ورحلة كفاحها مع زوجها الفلسطينيى وابنهما.
في مثل هذا اليوم 26 مايو من عام 1946، جاءت رضوى عاشور إلى الدنيا، ببيت في أحد أحياء القاهرة، التحقت بإحدى المدارس الفرنسية، كانت عاشقة للقراءة، لا تترك كتابًا تحت يديها إلا والتهمت عينيها سطوره.
لم تقرأ لكبار الكتاب المصريين والعالميين فحسب، بل كانت تحب أيضًا قراءة قصص الأطفال العربية والفرنسية، مع الوقت حاولت أن تخوض إلى هذا العالم، تجلس فتكتب تعي سريعًا أن كتابتها في البداية ليست على ما يرام أو كما يجب أن تكون عليها أو "رديئة" -على حد تعبيرها، ولكنها أخذت تحاول وتحاول إلى أن أضحت "رضوى عاشور" التي يعشق الكثيرون أسلوبها.
فمع الوقت صارت تحضر ورقة بيضاء..كبيرة الحجم.. خاوية من السطور، يحفها سلكٌ ملتف يجمع ورق الدفتر بعضه ببعض، تنكب "عاشور" عليه ممسكًة بقلمها الرصاص لتشرع في الكتابة، بعدما تكون قد وضعت دفترها الكبير بالعرض ..فهكذا كانت تشعر أن الورقة أكبر حجمًا، والسطر أمامها مفتوح، لا ينتهي سريعًا، فتتجنب بهذا شعور أن تكون حبيسة داخل ورقة طولية سرعان ما تصل لحفتها، كانت تلك بعضًا من طقوس "رضوى" في الكتابة، حسبما روت بأحد الأفلام الوثائقية لها ولعائلتها.
لم يأت حب رضوى عاشور للقراءة من فراغ، فقد ولدت في عائلة أدبية، فـوالدها مصطفى عاشور، محامي، وله باعٌ في الأدب، أما والدتها فتُدعى مي عزام، شاعرة وفنانة، ولم تنس الابنة "رضوى" فيما بعد أن تشر في أحد كتابتها كيف أنها ترعرعت على تلاوة النصوص الشعرية للأدب العربي من قبل جدها عبد الوهاب عزام، وهو دبلوماسي وأستاذ للدراسات والآداب الشرقية في جامعة القاهرة، وهو أول من ترجم "كتاب الملوك الفارسي (شاه ناما)" إلى اللغة العربية، فضلًا عن كلاسيكيات شرقية أخرى، بحسب أرجيك.
التحقت الفتاة العشرينية آنذاك في فترة الستينيات بكلية الأدب المقارن في جامعة القاهرة، وفيها التقت برفيق دربها الشاعر الفلسطيني "مُريد البرغوثي" الذي جاء من مسقط رأسه برام الله طلبًا للعلم في القاهرة، حصلت على الماجستير، تخرجا معًا تزامنًا مع نكسة 67، لم يتمكن حبيبها حينها من العودة إلى موطنه، بعدما أدرج اسمه في قوائم اللاجئين، سرعان ما بات يجمعهما سقف واحد، وانجبا طفلهما "تميم"، الذي صار فيما بعد شاعرًا معروفًا ومميزًا ايضًا مثلهما.
في العام الأول لولادة "تميم البرغوثي" وجدت رضوى عاشور نفسها مُجبرًة على تربيته وقضاء سنوات مع رضيعها وأول فرحتهما بمفردها هنا بالقاهرة، بعدما أصدرت السلطات المصرية فرمانًا بترحيل حبيبها "مُريد" إلى مسقط رأسه بفلسطين، جاء هذا القرار عقب زيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات لـ فلسطين عام 1977.
7 سنوات لم تر فيها العروس "رضوى" رفيقها "مريد"، فقط هي و"تميم" والأوراق والقلم وحياتها، اعقبها 9 سنوات لاحقة بات بإمكانهما أن تقع أعينهما في أعين بعض ولكن بإذن مسبق، أو بـ "واسطة" -على حد تعبير والدة تميم-.
لم تكن ضربٌة واحدة هي التي تلقتها "رضوى" يغياب الزوج فكما قالت "وكأن همًا واحدًا أو كأن الهموم يستأنس بعضها ببعض فلا تنزل على الناس إلا معًا"؛ ففي عام 2003 صدر فرمانًا ثانيًا ولكن تلك المرة بحق حبيبها الصغير "تميم" مفاده "يُرحل لفلسطين"، على خلفية مشاركته في مظاهرة تندد بالغزو الأمريكي على العراق.
سنواتٌ طوال ظلت الأسرة مُشتتة، كونها لم ترضى الأنظمة الحاكمة آنذاك، بعدما تعاهد ثلاثتهما "رضوى ومريد وتميم"، ألا ينصاعوا يومًا لم يخالف ما تمليه عليه ضمائرهم في كتاباتهم وأشعارهم ايضًا.
وسط كل تلك الظروف لم تستلم رضوى، بل إنها انتقلت من مرتبة أكاديمية للأخرى، إلى أن أصبحت أستاذة للغة الإنجليزية والأدب المقارن في عام 1986، وشغلت بعدها منصب رئيس قسم اللغة الإنجليزية والأدب في الفترة من 1990 إلى 1993، واشتبكت مع الحياة السياسية بالتوازي مع مسيرتها الأكاديمية.
ترى رضوى أن أي كتابة هي شكل من أشكال المواجهة ومقاومة واقع قاهر، وتشبه الكتابة بالعفريت الذي يخرج من الداخل فتقول: "الكتابة عملية غريبة، فأحيانًا حين أكتب يستدعي قلمي المشهد بسلاسة غير عادية، فالمشهد الجيد يكون قد كتب في الداخل ثم يخرج فجأة مثل العفريت".
حينما يحدث هذا الأمر، تعود "رضوى" كطفلة يغمرها شعور كبير بالسعادة؛ حيث تقول: "ببقى عاملة زي الأطفال".
في عام 1983 صدر أولى أعمالها "الرحلة: أيام طالبة مصرية في أمريكا"،أما أولى روايتها فهي "الحجارة الدافئة" والتي نشرت عقب عامين، كانت لها العديد والعديد من الروايات من بينها "طنطورية، ثلاثية غرناطة، أطياف، قطعة من أوروبا، أثقل من رضوى...".
حصدت رضوى جوائز عدة من بينها 1995: جائزة أفضل كتاب لعام 1994 عن الجزء الأول من ثلاثية غرناطة، على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، الجائزة الأولى من المعرض الأول لكتاب المرأة العربية عن ثلاثية غرناطة، جائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب في اليونان جائزة بسكارا بروزو عن الترجمة الإيطالية لرواية أطياف في إيطاليا، وغيرها الكثير.
صعدت روح رضوى عاشور إلى خالقها عام 2014، عقب صراع مع مرض السرطان، حيث توفيت عن عمر يناهز الـ 68 عامًا.
فارقت "رضوى" الحياة إلا أنها لازالت حيه في قلوب الكبار بشكل عام والشباب بصورة خاصة ممن يستحضرون اقتباسات من عبارات دونتها في روايتها، من بينها:
“عادة ما أشعر انى خفيفة قادرة على ان أطير وأنا مستقرة فى مقعد أقرأ رواية ممتعة. حين أشعر بنفسى ثقيلة أعرف أنى على مشارف نوبة جديدة من الاكتئاب”
“تناسيت حتى بدا أني نسيت”
“ و كلما حاول أن يغالب ما في قلبه ازداد ما في قلبه اتقاداً”
“هذا القلب الذي يطلب فجأة ما لا ينال.. غريب هذا القلب، غريب”
“ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة؟ ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلاً مزججاً و ملوناً لكي يتحمل عتمة ألوانه؟”
“الحزن قوة جاذبة تشد لأسفل، تسحب الرأس والكتفين إلى تحت، كأن الجسم في حزنه يُمسي واهناً خفيفاً فتستقوي الجاذبية عليه وتستشرس” .