يكتب الشعر لأنه ليس لديه رفيق يُحدثه غيره، وهو أحد رموز "قصيدة النثر"، ينتمي إلى جيل الثمانينيات في مصر، أصدر 21 كتابًا منهم 17 ديوانًا وروايتين وكتاب في الفكر السياسي، والكتاب الأول من السيرة الذاتية، إنه الشاعر المصري سمير درويش.
حاورت "مصر العربية" درويش للحديث عن أحدث كتبه "العشر العجاف.. من الهزيمة إلى النصر/ فصول من السيرة الذاتية"، وللحديث حول بعض المحطات الأدبية التي مر بها، وعلاقته بالشعر وبالرواية.
وإلى نص الحوار...
حدثنا بشيء من التفصيل عن أحدث كتبك "العشر العجاف.. من الهزيمة إلى النصر/ فصول من السيرة الذاتية"؟
- لم أفكر للحظة أنني يمكن أن أكتب سيرتي الذاتية، ربما لأنني رجل عادي ككل الناس، نشأت في بيئة فقيرة في قرية على النيل، ليست بعيدة جدًّا عن القاهرة بعدد الكيلومترات، لكنها بعيدة عن العين والقلب، أهلها فلاحون يعملون بالزراعة، وكان عدد المتعلمين وقت ولادتي صغيرًا جدًّا مقارنة بغير المتعلمين، وبالطبع لم يكن بقريتنا من يهتم بالقراءة أو بالثقافة بشكل عام، فالتعليم ليس سوى طريق للتوظف.
في يوم ما كتبت تدوينة على صفحتي في موقع فيس بوك عن شكل النساء في قريتي في ستينيات القرن الماضي: أرديتهن وخروجهن للشارع واختلاطهن بالرجال وعملهن بالحقل.. إلخ، فلاقت متابعة كبيرة لم أكن أتوقعها، مما شجعني على كتابة تدوينة أخرى عن ملمح آخر يخص قرية الستينيات، فلاقت نفس الاهتمام، فكتبت غيرها.. وغيرها، حتى أصبح لهذه التدوينات متابعون دائمون يسألون عنها إن تأخرت، وطالبني بعضهم بجمعها في كتاب، بل إن هناك من قال لي إنه سيكون كتابك.. يقصد الأهم بين كتبي، ومن هنا بدأت أفكر في هذا الأمر.
"العشر العجاف" ليس حكاية تصاعدية ولكنه مشاهد متفرقة، ترصد شكل الحياة في قريتي من 1965 إلى 1975، من قبل الهزيمة إلى بعد النصر، وهي السنوات التي قضيتها في قريتي لم أخرج منها إلا مرتين أو ثلاثًا، ولعدة ساعات في كل مرة، حتى دخلت مدرسة بنها الثانوية، لأنه لم يكن في قريتنا أو القرى المجاورة مدارس ثانوية، وسكنت في مدينة بنها القريبة بدون أهلي، وبدأت رحلة اغترابي التي استمرت حتى الآن.
إذا كان لكل كاتب هدف من كتاباته فما هو هدف الكتابة لدى سمير درويش؟ وما هي أهمية الشعر في حياتك؟
الحقيقة أنا أكتب فقط، أكتب وخلاص، أكتب لأن شيئًا ما أو أحدًا ما يتصرف نيابة عني وقت الكتابة، هذا الأحد لا يهتم بمن سيقرأ أو أعداد القراء والنقاد، أو بمعايير الكتابة نفسها ومقاييس الجودة التي يضعها آخرون يعيشون في اللحظة ذاتها، ولا بتأثير المكتوب على شخص أو جموع، لذلك أتعجب من أولئك الذين يحاكمون الشعراء والكتاب وينصبون لهم المشانق ويسخرون منهم، لأن الشاعر يكتب فقط، يكتب وهو يعلم أن الكتابة ليست سلعة رائجة ومع ذلك يكتب ليرضي نفسه، أو ليرتاح من ثقل الرغبة في البوح والاعتراف.
الشعر –في رأيي- كالحلم، نوع من إعادة تشكيل الواقع ورغبة في الطيران، ومحاولة لقول المسكوت عنه. الشعر مهم لصحتي النفسية كالحلم، فالدراسات العلمية تقول إن الذين لا يحلمون معرضون للأمراض أكثر، لأن الحلم يساعد على تخفيف الآلام، أنا أكتب الشعر لأخفف آلامي، وأكتب لأنه ليس لدي رفيق أكلمه غير الشعر!
ما هو تأثير جيل الثمانينات الذي تنتمي إليه على الشعر؟
جيلي بدأ الكتابة عند أعلى نقطة في صخب السبعينيين؛ الذين كانوا يحاكمون كل من سبقهم ويسفهون إنتاج الرواد. وقتها كان السبعينيون وقعوا على إنتاج شعراء جماعة شعر في لبنان، وعلى بعض الشعر الأجنبي عبر الترجمات التي وفرتها بيروت، ووجدوا نقلة فنية ما، بينما شعراؤنا من الخمسينيين والستينيين كانوا لا يزالون يحتفون بالرمز، فينتجون قصائد متشابهة، حين كنت تقابل شاعرًا شابًّا وقتها تجد في يده ديوانًا لأنسي الحاج أو لمحمد الماغوط، يدلل به على أنه شاعر حداثي، بالإضافة إلى أن بؤرة الشعر انتقلت من صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي إلى محمد عفيفي مطر، الذي كان يكتب قصيدة تعتمد على المجاز الثقيل، وصورًا تباعد كثيرًا بين المشبه والمشبه به حتى لا يمكنك التقاط العلاقة بينهما.
وقفنا نتابع هذا المشهد لبعض الوقت، وأصدرنا دواوينا الأولى ونحن مشدوهين، لا نستطيع أن نخطو خارجه، لكن الدواوين التالية اختلفت كثيرًا، كانت منحازة لـ"قصيدة النثر" بشكلها الحالي وليست مكتوبة بالشروط الجمالية لقصيدة التفعيلة وإن استغنت عن الوزن، كما فعل السبعينيون، الذين نسبوها لحسين عفيف، لأن ما يكتبونه كان أقرب لما يسمى "الشعر المنثور" الذي كتبه عفيف والمنفلوطي وغيرهما، بعيدًا عن القصيدة الناضجة التي نعرفها الآن، جيلي كان له فضل كبير في الخروج من الشكل التقليدي إلى الحداثة الحقة.
بماذا تصف أشعارك.. أو بمعنى أخر ما هي أوجه الاختلاف بينها وبين أشعار غيرك؟
أنا بدأت بكتابة قصيدة التفعيلة التي كانت غالبة وقت بدايتي، وأصدرت دواويني الثلاثة الأولى فيها، وحين بدأ الحديث عن قصيدة النثر لم أستسغها، ربما لأن النماذج التي كتبت كانت بدائية، ولأن المدافعين عنها كانوا يسوقون أسبابًا غير مقنعة يمكن الرد عليها، لكنني وجدتني مضطرًا للخروج إليها بعد وقت تطويرًا لجماليات تجربتي، ففعلت، ولم أعد إلى التفعيلة مرة أخرى كما يفعل من يزاوجون بين الشكلين.
أتصور أن "اليوميات" هي التي تميز تجربتي، التميز بمعنى الاختلاف لا بمعنى الجودة هنا. ففي بداية عام 2001 بدأت في كتابة تجربة أطلقت عليها وقتها اسم "اليوميات"، ونشرتها بعد ذلك مضطرًا تحت اسم "يوميات قائد الأوركسترا"، كنت أكتب نصًّا بروح تسجيل اليومية الذي كنا نمارسه في المرحلة الثانوية، أن تحكي ما حدث في اليوم نفسه، وفي نهاية العام كنت أمتلك سجلًّا، تأريخًا لعام كامل من حياتي يُمكِّنني الآن من معرفة أحوال أطفالي، ومن كنت أحب، وما الذي ضايقني.. إلخ، هذه التجربة قادتني إلى المشهدية أكثر فأصبحت طابعًا مميزًا لتجربتي.
تُرجمت أعمالك إلى العديد من اللغات الأجنبية.. كيف تنظر إلى تلك التجربة؟
كل دواويني ترجمتها إلى الإنجليزية اللبنانية المتميزة سوسن الفقيه، تقول إنها وجدتها تعبر عنها، وإنها كانت ستكتب هكذا لو كتبت الشعر، وهذا شيء رائع أن يسمعه أي شاعر. أنا لا أعرف الإنجليزية بالقدر الذي يسمح لي بتقييم ترجمتها، لكن أحد الشعراء الأمريكيين كتب تقريرًا قصيرًا على موقع جود ريدر حول الديوانين اللذين نشرتهما دار أوستن ماكولي الإنجليزية في مجلد واحد: "تصطاد الشياطين" و"أبيض شفاف"، وقال كلامًا يرضي غرور أي شاعر وأي مترجم. كما أن لجنة النشر بالدار نفسها كتبت تقريرًا عن الكتاب الثاني الذي سيصدر قريبًا، ويضم ديواني "في عناق الموسيقى" و"مرايا نيويورك"، قائلة إنه مرشح لأن يكون ضمن الكتب العشرة الأكثر مبيعًا، وهذا أيضًا شرف لأي شاعر ولأي مترجم، خاصة إذا صدر عن أناس لا يجاملون ولا يلعبون ولا يعرفونك من الأساس.. وبالمناسبة فإن هذا الكتاب الأخير ترجم وصدر –عن الإنجليزية- إلى أربع لغات: الفرنسية والبرتغالية والهندية والإيطالية.. والآن يتم ترجمتهما وإصدارهما باللغتين الروسية والإسبانية.
تجربة إصدار الكتب في الغرب مختلفة، لأن دور النشر هناك محترفة، لديها لجان على أعلى مستوى تجيز ما تراه مناسبًا من حيث الجودة واحتياج السوق واحتمالية التوزيع، كما تتعامل باحترافية مع الكاتب والمترجم من حيث الحقوق المادية والأدبية، وتضعهما في الصورة بكل مرحلة من مراحل صناعة الكتاب، هذه تجربة تثبت أن ما نفعله من عشوائية وتحميل كل شيء على الكاتب فيه استهتار بالكتابة وعدم تقدير لقيمتها.
بصفتك أحد مبدعي "قصيدة النثر" كيف ترى وضعها الحالي.. ومستقبلها؟
أي محايد يستطيع أن يرى أن "قصيدة النثر" تخطت معركة الاعتراف بها التي خاضتها لسنوات مع التقليديين، من شعراء الشعر الكلاسيكي ونقاده ومتذوقيه، فهؤلاء لم يكونوا يعترفون بأنها تنتمي إلى الشعر، ويلصقون بها تسميات أخرى مثل "الشعر المنثور" "النثر الفني" و"الخاطرة".. إلخ، باعتبار أن الشعر في ظنهم هو الموزون المقفى، ولاشك أيضًا أن شعراءها يحتلون الفضاء الشعري العربي الآن، من حيث الكم على الأقل، ويصدرون دواوينهم باضطراد، ويقيمون لها الحفلات والندوات، كما أصبح لها نقادها الذين يتحدثون عن المشهدية والإيقاع الداخلي والتكثيف والاقتصاد في اللغة.. إلخ.
لكن لا بد للمتابع أن يعترف –كذلك- أن هذه القصيدة انزاحت عن الجماليات التي كانت معروفة بها في بداياتها، وأصبح يغلب عليها السرد العادي والنثرية التي تقترب من –أو تذوب في- الكلام اليومي والمتداول في الشارع وفي كتابات الفيس بوك، وأن هذه الأشكال الخفيفة أصبح لها متابعون أكثر بفعل سهولة تلقيها، وبحكم أن المتلقي أصبح سريعًا وملولًا، لا وقت لديه للتوقف أمام المستويات الأعمق التي تقدمها القصائد الجيدة، كما أنه لا يمتلك ثقافة شعرية. حدث هذا في ظني بعد دخول كثيرين ممن لا يعرفون الإيقاع التقليدي إلى ساحة الكتابة، وممن لا يعرفون بدائيات اللغة العربية من نحو وصرف، فأصبح عاديًّا الآن بالنسبة لي –كرئيس تحرر مجلة أدبية- أن أصلح اللغة لشاعر يخطئ بشكل متكرر، بينما لم يقرأ د.عبد القادر القط قصيدة لي في بداياتي بعد أن قابله أول خطأ نحوي، لقناعته أن الشعر تشكيل باللغة، وأن من لا يملك اللغة لا يعرف التشكيل.
* هل ترى أن الرواية كفن أدبي تظلم شعبيتها الشعر؟ ولماذا لم تبحر في الرواية واكتفيت بعملين فقط؟
الرواية فن شعبي، يجد فيها القارئ حكايات مسلية ومواعظ وشخصيات متعددة وتاريخ وجغرافيا، مثل ما يجده في الأفلام والمسلسلات التليفزيونية، كما أنها كبيرة تسمح له بمعايشتها لبعض الوقت، وتلقيها لا يحتاج إلى معرفة سابقة باللغة وأسرارها أو الجماليات والرموز لأنها –في الغالب- منبسطة تعطي أسرارها ببساطة، بينما الشعر فن نخبوي، هو تشكيل باللغة كما سبق أن ذكرت، هو أقرب للباليه بالنسبة للرقص أو بالأوبرا بالنسبة للغناء، يحتاج متلقيه إلى ثقافة معقولة ليدرك أسراره ويستمتع بجمالياته.
هذه الفروق بالتأكيد تعمل لمصلحة انتشار الرواية والروائيين، مع التأكيد على أن الانتشار لا علاقة له بالجودة أو الجدة، وبالتأكيد يؤثر ذلك على نشر الشعر، فدور النشر تفضل الروايات ولا تتحمس للشعر إلا إذا دفع الشاعر تكاليف طباعة ديوانه، أتحدث هنا عن الأغلبية لأن هناك استثناءات.
أما لماذا لم أستمر في كتابة الرواية فلأنني –ببساطة- لست روائيًّا، التجربتان اللتان كتبتهما كانت لهما ظروف معينة دفعتني لكتابتهما، قد تتوفر هذه الظروف مرة أخرى وقد لا تتوفر، لكنني شاعر، أحب الشعر وأحب تجربتي التي عبرت فيها عن نفسي بشكل كبير.
بصفتك رئيس تحرير مجلة "ميريت الثقافية" الآن، وكنت رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة قبل ذلك.. هل تعتقد أن بمصر مجلات ثقافية كافية وتقوم بدورها المطلوب؟
بكل أسف، مصر التي عدد سكانها مائة مليون نسمة، لا تملك إلا مجلة ثقافية أدبية واحدة منتظمة الصدور، هناك مجلات توقفت مثل مجلة المجلة، وهناك مجلة إبداع الشهرية، وفصول ربع السنوية المخصصة للنقد الأدبي، لكنهما تصدران على فترات متباعدة بشكل غير منتظم، وهناك مجلة الشعر الفصلية التي تصدر عن وزارة الإعلام، وهي تظهر وتختفي على فترات، وحتى المجلة المنتظة (الثقافة الجديدة) تطبع عددًا لا يكاد يكفي حي شبرا، وكأنها مجلة سرية لا يرها أحد، وهو وضع مخزٍ لا يتناسب مع حجم الحركة الأدبية والثقافية المصرية، ولا يقارن بعدد المجلات الشبيهة التي تصدرها دول الخليج مثلًا مثل العربي والدوحة والشارقة الثقافية والبحرين الثقافية.. وغيرها، وحتى المجلات السعودية المحافظة مثل الفيصل والمجلة العربية، وتلك تطبع أعدادًا وفيرة، وتوزع في كل الدول العربية بأسعار زهيدة، مما يطرد الوجود المصري من تلك الساحة بشكل شبه كامل، لولا تواجد الأدباء والمثقفين المصريين على صفحات تلك المجلات.
طبعًا هذا الوضع شاذ لا يعكس القيمة الثقافية لبلد عريق مثل مصر، تمثل الثقافة فيها أهم مكون حضاري قدمته للبشرية، فكان من الواجب أن تتبنى وزارة الثقافة إصدار مجلتين أو ثلاث على الأقل يتم طباعتها بأعداد كبيرة وتوزيعها في الوطن العربي كله، وأن يقوم على إدارتها وتحريرها خيرة المثقفين المصريين لتظل مصر رائدة، وهذا كان متحققًا قديمًا في مجلات مثل الكاتب والثقافة والرسالة، وتحقق في الفترة الأخيرة من خلال مجلة فصول في إصدارها الأول التي كان يرأس تحريرها د.عز الدين إسماعيل ويعاونه مجموعة من أهم النقاد، ويتابعها الأدباء والكتاب والنقاد العرب جميعًا، لكنها تراجعت مع الأسف ولم يعد لها تأثيرها الأول.
أتفهم أن عدم وجود ميزانية كافية قد يكون عائقًا رغم أنني لا أرى ذلك، لكن الآن لدينا الفضاء الإلكتروني الذي لم نستغله بعد، المجلات العربية الناجحة التي أشرت إليها توفر نسخًا إليكترونية من إصداراتها مجانًا لأن العائد المادي ليس له الأولوية الأولى بقدر السيطرة على الثقافة العربية وضخ الأفكار بها، حسب قناعات الجهات التي تصدر هذه المجلات، ومصر تحارب الإرهاب وتعاني من الأفكار الدينية المتشددة التي تتستر خلفها جماعات العنف الديني، لذلك كان عليها أن تصدر مجموعة من المجلات التنويرية التي تساهم في إرساء المفاهيم الصحيحة، لأن السلاح وحده مهما فعل لا يمكن أن يقضي على الفكر المتشدد.
هذا ما جعلني أنشئ مجلة "ميريت الثقافية"، وأبحث عن منصة لإصدارها، وقد بدأت الانتظام في الصدور من بداية يناير هذا العام 2019، بعد أن اعتذرتُ عن مواصلة رئاستي لتحرير مجلة الثقافة الجديدة، وهي مجلة شهرية إليكترونية تهتم بفكر التنوير، ويتم تحميلها مجانًا من الإنترنت، وقد لاقت استقبالًا كبيرًا تمثل في رغبة عدد كبير من المثقفين والأدباء العرب الكتابة في صفحاتها منذ أعدادها الأولى، وهو ما فاق توقعاتي.