دخلت الأزمة في إدلب، شمال غربي سوريا، نفقا جديدا ظاهره التصعيد لكن باطنه مزدحم بمئات السيناريوهات السياسية الخفية والمعلنة والترتيبات الاستخباراتية والأمنية، بالطبع بين الطرفين الرئيسيين الكبيرين هناك، وهما تركيا وروسيا، وبينهما النظام السوري.
وهناك عدة إرهاصات تشير إلى وجود توجه روسي تركي لتصفية هذا الأمر، وعدم السماح لأن تتحول إدلب إلى ميدان مواجهة بين موسكو وأنقرة، المرتبطتان بملفات إقليمية ودولية تجعل من الصعب على علاقاتهما أن تبقى في مهب الريح بسبب "جيب في سوريا".
في 27 يناير الجاري، زار وفد روسي دمشق لإجراء محادثات مع رئيس النظام السوري "بشار الأسد"، وضم الوفد كلا من مبعوث الرئيس الروسي الخاص للشأن السوري "ألكسندر لافرنتييف"، ونائب وزير الخارجية "سيرجي فرشينين"، ومسؤولين عسكريين رفيعي المستوى لم تُذكر أسماؤهم.
وفي وقت سابق من ذلك اليوم، كان وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" أجرى محادثة هاتفية مع نظيره التركي "مولود جاويش أوغلو".
أوضاع ميدانية
ركز الحدثان على الوضع في منطقة إدلب، حيث وصلت قوات النظام في 26 يناير إلى ضواحي معرة النعمان، وهي مدينة تسيطر عليها المعارضة، وتعد استراتيجية، حيث يمر بها طريق سريع رئيسي يربط دمشق بحلب.
قاتلت قوات النظام للسيطرة على 22 بلدة وفق الأنباء، وكان الهجوم مدعوما بضربات جوية روسية اعتبرها الجانب التركي انتهاكا لوقف إطلاق النار الذي تم بوساطة بين الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" ونظيره التركي "رجب طيب أردوغان" في 12 يناير.
خلال الأسبوع الأول من هذا الشهر، غادر "بوتين" دمشق متوجها إلى إسطنبول، بعد أن ترك لـ"الأسد" رسالة مزعجة.
ووفقا لما نشرته مصادر سورية وتركية، نصح "بوتين" النظام السوري، خلال الزيارة، بوقف هجومه على إدلب للسماح لتركيا بنقل بعض الجماعات المعارضة إلى ليبيا والضغط على الآخرين للانفصال عن "هيئة تحرير الشام".
هكذا تفسر موسكو الالتزام الذي تعهد به "أردوغان" في منتجع سوتشي الروسي في سبتمبر 2018 كجزء من الصفقة الروسية التركية بشأن إدلب.
وبحسب ما أورده موقع "المونيتور"، عن مصادر (لم يسمها)، فإن "الأسد" لم يعجبه ما قاله "بوتين"، فجيشه كان قد سيطر بالفعل، بدعم من القوات الجوية الروسية، على عدة بلدات في إدلب ولا يريد للهجوم أن يفقد زخمه.
ومع ذلك، كان على "الأسد" أن يوافق على نصيحة "بوتين" – أو بالأصح أوامره- لأن المبادرة كانت جزءا من حزمة أكبر من الصفقة الروسية التركية بشأن ليبيا والاتفاقيات الثنائية.
لكن بعد 3 أسابيع تقريبا، لم يتحسن الوضع في إدلب، بل على العكس زاد سوءا، مع حدوث انتهاكات من حين لآخر لوقف إطلاق النار من كلا الجانبين وعزم جيش النظام السوري على التحرك بشكل أعمق في المنطقة.
تسبب الهجوم الجديد في موجة جديدة من النزوح؛ حيث أفادت التقارير بأن الآلاف يفرون باتجاه الحدود السورية مع تركيا.
هنا ظهر الغضب التركي، بسبب موجة النزوح الكبير، بالإضافة إلى إحراج أنقرة أمام حلفائها في المعارضة السورية، وأيضا إحراج "أردوغان" إقليميا.
لكن لماذا سمحت روسيا لـ"الأسد" باستئناف التصعيد رغم ما سبق؟
شكوى روسية
هنا، ينقل موقع "المونيتور" عن مسؤول عسكري روسي رفيع قوله: "منذ أن توصلنا إلى اتفاق مع تركيا بشأن إدلب، لم يكتمل حل فصل المعارضة المعتدلة عن المتطرفين.
مر ما يقرب من عام ونصف. نحن نعترف بأن الأمر ليس سهلا، لكن هذا كان التزام أنقرة وتوقعنا منهم الوفاء به. لا يمكننا أن نظل مكتوفي الأيدي لأن العش الإرهابي يزدهر هناك وليس للحكومة السورية (النظام السوري) سيطرة عليه".
وأضاف: "الحجة القائلة بأنها آخر منطقة يسيطر عليها المتمردون هي زائفة، وإلا فماذا عن المنطقة الواقعة شرق الفرات، أليست هي كذلك تحت سيطرة المعارضة؟، لكن الأهم من ذلك أنه لم يعد هناك مجموعات معارضة كافية متروكة هناك.
إن من أرادوا التفاوض أو الخروج من المنطقة فعلوا ذلك، وأولئك الذين بقوا إرهابيين، ومعظمهم من هيئة تحرير الشام، هناك طريقة واحدة فقط للتعامل معهم".
ويقول "ﻣﻜﺴﻴﻢ ﺳﻮﺷﻜﻮف"، اﻟﺨﺒﻴﺮ ﻏﻴﺮ اﻟﻤﻘﻴﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﺮوﺳﻲ ﻟﻠﺸﺆون اﻟﺪوﻟﻴﺔ، إن شكوى روسيا بشأن عجز تركيا عن الفصل بين جماعات المعارضة تتشابه مع سردية موسكو حول العمل مع الأمريكيين بشأن حلب.
ففي خريف 2016، اتهمت روسيا الولايات المتحدة بالفشل في الوفاء بوعدها بفصل "جبهة فتح الشام"، التي كانت تُعرف سابقا باسم "جبهة النصرة"، وغيرها من الجماعات المتطرفة عن قوى المعارضة الأكثر اعتدالا.
في ذلك الوقت واجهت الولايات المتحدة السردية بطريقتين. أولا: قالت إن الجيش الأمريكي لم يستهدف "جبهة النصرة" لأنه أصبح مختلطا مع المدنيين والجماعات الأخرى. ثانيا: جادلت بأن موسكو نفسها كانت تقود المعتدلين للانضمام إلى المتطرفين من خلال القصف والغارات الجوية الضخمة على حلب والبلدات المجاورة.
وعلى عكس حلب، التي تضررت بشدة من الغارات الجوية الروسية، اختارت روسيا في إدلب "سيناريو أكثر مرونة".
أولا: سمحت لتركيا بالتعامل مع قضية المعارضة بمفردها، ثم عندما لم ينجح ذلك، تحركت روسيا إلى الضغط من حين لآخر على أنقرة لاتخاذ إجراء من خلال هجمات جيش النظام السوري والغارات الجوية الروسية، والاستيلاء تدريجيا على أجزاء من إدلب الكبرى.
لكن هل يعني هذا أم الأمور تتجه إلى التصعيد فقط؟
قنوات اتصال خلفية
على العكس، يقول "سوشكوف"، مدللا باللقاءات التي حدثت مؤخرا، بين رئيسي المخابرات التركية "هاكان فيدان" والسورية "علي المملوك"، ويقول إن هذه اللقاءات شهدت تحديد الطرفين أهدافهما النهائية بوضوح إزاء القضية.
وهناك ضغط تركية على روسيا لتقنع "الأسد" بأهمية تولي ملف مساعدة النازحين من إدلب وإعطائهم الأمان كي يعودوا إلى قراهم ومساكنهم، لكن الأزمة الآن تكمن فيمن تعتبرهم موسكو ودمشق إرهابيين من قيادات ومقاتلي المعارضة السورية المسلحة، لذلك تقوم تركيا بمحاولة فصلهم على أساس أيدلوجي، والعمل على ترحيل المتشددين إلى خارج إدلب.
بشكل عام، ستشهد الأسابيع القليلة المقبلة محاولة فاصلة تركية روسية لإنهاء "ملحمة إدلب" التي استمرت لسنوات، فهل ستنجح؟