لا شك أن جميع الدول ستخسر اقتصاديًا بسبب جائحة فيروس "كورونا"، لكن في حالة الصين، هناك بُعد إضافي مهم للأزمة، حيث ستزداد الشكوك الغربية تجاه بكين، الأمر الذي يوسع الفجوة الجيوسياسية القائمة بالفعل.
إن الدعوات في الغرب لفك الارتباط الاقتصادي عن الصين، فضلاً عن تزايد المطالب بأن تمتثل بكين للمعايير الاقتصادية والصحية والسياسية الغربية يمكن أن تعقد تطلعات الصين العالمية.
ولا شك أن وباء الفيروس التاجي سيكون له تأثير على الاقتصاد الصيني، ولنأخذ، على سبيل المثال، الصفقة التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي دخلت المرحلة الأولى منها حيز التنفيذ في فبراير الماضي.
وتنص المرحلة الأولى من الصفقة على أنه سيتعين على بكين شراء سلع أمريكية إضافية بقيمة 200 مليار دولار على مدى العامين المقبلين.
وبالرغم أن الحكومة الصينية قالت إن البلاد ستلتزم بهذا الشرط، يبقى أن نرى ما إذا كانت بكين ستكون قادرة على متابعة تنفيذ هذا الالتزام وغيره من الالتزامات الواردة في الاتفاق.
كما أن هناك مخاوف في الولايات المتحدة من تأجيل المرحلة الثانية من المفاوضات التجارية مع الصين، وسيكون لهذا تأثير سلبي على العلاقات بين واشنطن وبكين، والتي يمكن أن يكون لها بدورها تداعيات عالمية.
اضطراب "الحزام والطريق"
ويسبب الوباء أيضا اضطرابا كبيرا في مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، التي تبلغ قيمتها نحو تريليون دولار، وتم الإبلاغ عن تأخيرات كبيرة في مشاريع المبادرة في جنوب آسيا، وتحديدا في كمبوديا وإندونيسيا وسريلانكا ودول أخرى.
وتتمثل إحدى المشكلات في قيود السفر، التي تحد من قدرة العمال الصينيين على المشاركة في مشروعات المبادرة في الخارج.
وتوجد أيضا مخاوف من أن يؤدي الإغلاق الجزئي للمصانع الصينية إلى تأثير كبير على المبادرة، حيث تحتاج مشاريع البنية التحتية الكبيرة إلى إمدادات مستمرة من الموارد الرئيسية التي تفتقر إليها الدول المضيفة.
ومما لا شك فيه أن الحكومة الصينية ستعمل بجد لإنقاذ مبادرتها، فقد أصبح هذا المشروع الرائد، الذي يُعتبر على نطاق واسع مبادرة شخصية من الرئيس "شي جين بينج"، مدمجا الآن في الحكم السياسي الصيني وسياسة البلاد الخارجية، والأهم من ذلك في تصور الدولة لمكانتها العالمية الصاعدة، وسوف يضر تعطيل المبادرة بتطلعات بكين الجيوسياسية بشكل خطير.
ولمساعدة الاقتصاد الصيني على مواجهته آثار أزمة الفيروس التاجي، من المرجح أن تتدخل الحكومة بشكل كبير من خلال تخفيض أسعار الفائدة، وزيادة الإقراض، وإجراءات التحفيز المالي.
وسيتعين عليها التعامل مع الأضرار التي لحقت بالاقتصاد بسبب تضاؤل سلاسل التوريد العالمية الناتجة عن انخفاض الطلب العالمي على المنتجات الصينية.
فك الارتباط
ويمكن أن يكون هناك بعد أكبر لأزمة الفيروس التاجي في الصين. وهناك اتجاه متزايد بين الدول الغربية للحد من ارتباطها بالقوة الاقتصادية الصينية من خلال الفصل الجزئي للروابط الاقتصادية العميقة القائمة.
وتتمركز العديد من الشركات العالمية ذات سلاسل التوريد العالمية في الصين، وقد يتفاعل بعضها مع أزمة الفيروس التاجي عن طريق اختيار تنويع مواقعها.
وفي الواقع، كانت هذه الدعوات تتصاعد قبل الوباء بوقت طويل، لأن المعايير الغربية والصينية لممارسة الأعمال التجارية تختلف بشكل كبير على العديد من المستويات.
واهتز العالم بسبب تكتم الصين على انتشار الإصابات في بداية الوباء، والمساعي اللاحقة من قبل بكين لحجب المعلومات حول الوباء.
ومن المحتمل أن يتسبب ذلك في أضرار جسيمة لمحاولات الصين وضع نفسها كقوة عالمية لديها طموحات لإعادة صياغة كل من العلاقات بين الدول والنظام الاقتصادي للمنطقة الأوروآسيوية.
وبالرغم أن بكين بذلت جهودا كبيرة في استخدام هذه الأزمة كفرصة لتعزيز قوتها الناعمة من خلال توفير المساعدة الطبية للدول في جميع أنحاء العالم، لكن هناك اتجاها معاكسا ناشئا وهو تفاقم عدم الثقة في الصين وتراجع قدرتها على تأسيس نفسها كقوة نموذجية.
وهناك دعوات في جميع أنحاء العالم تطالب بكين بتوضيحات حول الأزمة، كما تصاعدت التهديدات برفع دعاوى قضائية بشأن التستر على المعلومات من قبل الصينيين في بداية الوباء.
انقساد أيدولوجي
وسوف يتم إجراء العديد من التحقيقات حول تفشي الفيروس، ولكن من الواضح أن الأزمة وسعت الانقسام الأيديولوجي القائم بالفعل بين الصين والغرب.
وفي الوقت الذي استعد فيه الغرب والصين للتنافس الجيوسياسي في العقود القادمة، حاول القطبان حتى الآن الامتناع عن معالجة الصراع المتصاعد من الناحية الأيديولوجية، لكن أزمة الفيروس ستكشف في نهاية المطاف عن صراع أيديولوجي سيعقد العلاقات بين الغرب والصين.
وقد يكون الوباء بمثابة نقطة الانطلاق، حيث تبدأ مؤسسات الاتحاد الأوروبي في التشكيك بصوت عالٍ في المعلومات الواردة من الصين وانتقاد البلاد علنا.
وسيكون هذا متسقا مع تطور سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه بكين خلال العام الماضي، وفي عام 2019، اعترفت مؤسسات الاتحاد الأوروبي بالصين باعتبارها المنافس الرئيسي لأوروبا.
وبدأ الأوروبيون يعيدون النظر في اعتمادهم على مورد خارجي واحد للمعدات الطبية الحيوية.
وسوف تتضرر علاقات الصين مع الولايات المتحدة في الوقت الذي تسعى فيه واشنطن لتعزيز موقفها بين حلفائها وشركائها حول العالم.
وسوف يعتمد مدى الضرر في نهاية المطاف على المدى الذي تكون الولايات المتحدة مستعدة للذهاب إليه في استخدام الوباء كسلاح ضد الصين.
وسوف يقلل موقف الصين المتراجع من علاقاتها وفرصها حتى على طول ممرات مبادرة "الحزام والطريق"، وسوف تتطور مخاوف ما قبل الوباء بشأن التحركات السياسية والاقتصادية للصين في آسيا الوسطى والشرق الأوسط لتصبح عائقا جيوسياسيا أمام بكين في أعقاب الأزمة.
وفي حين أن بعض المحللين يقدمون تنبؤات جذرية، فإن سيناريو الضرر المحتمل لمكانة الصين العالمية بعد جائحة الفيروس التاجي "كوفيد-9" يأتي بدرجة متوسطة المستوى.
ومن المرجح أن تمضي مبادرة "الحزام والطريق" على طول الممرات المخططة، وسوف تظهر نتائج الوباء في المقام الأول في المجال الأيديولوجي، المتشابك بعمق مع الخريطة الجيوسياسية.
وقد تظهر رؤية "أوراسيا 2050" خطوط نفوذ مقسمة بين المجالات الاقتصادية والأيديولوجية الصينية والغربية، وقد يكون فيروس "كورونا" هو السبب الرئيسي لفصل الغرب عن الصين.