كورونا جر الأطباء لمعارك سياسية.. هل ينجو أصحاب المعاطف البيضاء؟

أفرزت أزمة تفشي جائحة "كورونا" في العالم ظواهر جديدة على كافة المستويات، لكن ثمة ظاهرة يرى كثير من المحللين أنها جديدة من نوعها، في مسيرة ظهور أول جائحة كبيرة في زمن العولمة والتكنولوجيا الفائقة، وهي ظاهرة الأطباء السياسيين.

 

يعتقد البعض أن جميع المؤسسات الإنسانية سياسية، وينطلق هذا الاعتقاد من مقولة "أرسطو" أن "الإنسان بطبيعته حيوان سياسي"، وإذا رغب المرء في الصعود إلى القمة في مجاله، فلا يكفي أن يكون كفئًا، وإنما يجب أن يكون دبلوماسيًا، وداهية ووحشيًا عندما يستلزم الأمر.

 

لكن الصعوبة في السياسة هي القدرة على الموازنة بين المطالب المتنافسة، التي يؤدي الفشل فيها إلى اتخاذ قرارات خاطئة.

 

بالنسبة للعديد من المؤسسات -خاصة الحكومية- فإن الصراع بين الحفاظ على المصداقية وتلبية المطالب الجماهيرية هو صراع مألوف.

 

لكن هناك بعض المؤسسات، مثل المؤسسة الطبية، التي لديها خبرة أقل في ذلك؛ فغالبًا ما يتمتع المجتمع الطبي برفاهية العمل في عزلة نسبية عن متطلبات السياسة.

 

درع الخصوصية يترنح

 

هذا الدرع من شبه الخصوصية أتاح ثقة أكبر بالخبراء؛ كما أن قلة الضوء المسلط على المؤسسة منحها غموضًا أكبر وقلل من النقد الموجه لها، ولكن هذا لم يعد الحال اليوم.

 

فقد عرّضت جائحة "كورونا" ممارسة الطب والصحة إلى المعضلة السياسية الأساسية المتمثلة في تحقيق التوازن بين المطالب المتنافسة.

 

ويرصد المحلل "أليكس بيريزو"، في مقال نشره مركز "جيوبولوتيكال فيوتشرز" الأمريكي، مثالين على هذا الأمر من واقع أزمة "كورونا"، هما: "تيدروس أدهانوم"، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، و"أنتوني فاوتشي" مدير المعهد الوطني لأمراض الحساسية والأمراض المعدية والمتحدث الفعلي باسم الاستجابة الأمريكية لجائحة "كوفيد-19".

 

وبحسب "بيريزو"، وجد الأول نفسه متهما بالتعتيم والتضليل لصالح الصين، في أزمة تفشي "كورونا"، وهي الاتهامات التي وجهها إليه الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، وقرر على إثرها تعليق تمويل منظمة الصحة العالمية، مما بات يهدد استمراريتها من الأساس،نظرا لضخامة التمويل الأمريكي ومحوريته لها.

 

مدير منظمة الصحة العالمية

 

ووفقا لوجهة نظر "ترامب"، كان "تيدروس" أبرز مؤيدي الصين، بمجرد انكشاف أمر الوباء للعلن، حيث امتدح بكين، لا سيما فيما يتعلق بسرعتها في تحديد تسلسل الجينوم الخاص بالفيروس وعرضه على المجتمع العالمي، كما سلط الضوء على فعالية الصين في السيطرة على تفشي المرض.

 

ويقول "بيريزو": "ووفق ما اتضح في كثير من الأحيان؛ كانت السياسة - وليس تقييم الصحة العامة غير المنحاز - الدافع المحتمل لسلوك تيدروس".

 

وبالرغم أن عامة الناس قد لا يفكرون في وكالات الصحة العامة ككيانات سياسية، إلا أن البلدان غالبًا ما تسعى إلى التأثير في المؤسسات الدولية لكسب النفوذ السياسي.

 

ويرى "أليكس بيريزو" أن في عام 2017، أصبح "تيدروس" رئيس منظمة الصحة العالمية بعد أن أعطته الصين دعمها، وهكذا، كان مدينًا لها واضطر لإرجاع المعروف عندما تطلب الأمر ذلك.

 

ويقول إن "تيدروس"، خلال هذه العملية، أساء إلى سمعة منظمة الصحة العالمية، وأكسبها سمعة "شريكة الصين في التستر على فيروس كورونا"، وهي السمعة التي يمكن أن تهدد النفوذ السياسي للمنظمة ومصادر تمويلها، مما يضر في نهاية المطاف بقدرتها على القيام بعمل مهم.

 

الأسوأ من ذلك، أن العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي يطالبون الآن بالإطاحة بـ "تيدروس"، وقد يتمكنون من ذلك أيضًا، لأن الولايات المتحدة هي أكبر ممول لمنظمة الصحة العالمية، والمال له نفوذه.

 

وبعيدا عن "تيدروس"؛ باتت منظمة الصحة العالمية نفسها في خضم خلاف جيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين.

 

معركة أخرى

 

أما "فاوتشي"، فلن يواجه بالتأكيد هذا المستوى من التدقيق السياسي، لكنه لن يخرج سالما، أيضا، حيث تعقدت العلاقة بينه وبين الرئيس الأمريكي.

 

يحظى "فاوتشي" باحترام كبير لأسباب عديدة، أحدها أنه ترأس "المعهد الوطني الأمريكي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية" منذ عام 1984، وهو ناجح وبارع، لكنه يواجه الآن ربما أصعب مهمة في حياته المهنية؛ فلديه مهمة محفوفة بالمخاطر تتمثل في مواجهة الجمهور نيابة عن رئيس الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، عليه أن يقول الحقيقة العلمية بأفضل ما يستطيع.

 

ويمكن لهذه الأدوار أن تكون متضاربة. لدى السياسي نهج في مقاربة الوضع بشكل يختلف تمامًا عن الطبيب. يحتاج الرئيس إلى حماية كل من الصحة العامة والاقتصاد، والسعي في أحدهما يمكن أن يعرض الآخر لخطر أكبر، ويرافق كل هذا أجندة سياسية تتمحور حول إعادة الانتخاب.

 

ومع ذلك، قرر المجتمع الطبي، الذي تقوده إلى حد كبير الأوساط الأكاديمية، أن الصحة العامة تستحق إعطاء الأولوية على الاقتصاد.

 

هذا ليس مفاجئًا نظرًا لأن المؤسسات الطبية تعتمد على البيانات ولا تشعر بالحاجة للاستجابة للرأي العام.

 

في الوقت الحاضر، تتماشى المشاعر العامة الأمريكية مع المجتمع الطبي بناءً على أسس أخلاقية وتدعم القيود الاجتماعية والمادية الواسعة التي تساعد على تقليل عدد الوفيات. يمكن تلخيص الاعتقاد السائد بين الجمهور في أنه "يمكن إحياء الاقتصادات، بينما الجثث لا".

 

ومع ذلك، فبينما كانت الولايات المتحدة في حالة إغلاق، قدم أكثر من 16 مليون شخص طلبات إعانات البطالة في الأسابيع الثلاثة الماضية فقط، وأصبح الركود أمرًا محتومًا.

 

هذه هي القوى المتعارضة التي تضغط على "فاوتشي"، ومع ذلك، لديه اعتبار ثالث: الحقيقة العلمية؛ والحقيقة حاليًا مشوشة.

 

على سبيل المثال، خلصت مراجعة حديثة نُشرت في مجلة "ذا لانسيت" الطبية إلى أن إغلاق المدارس ليس فعالًا جدًا في إبطاء انتشار فيروس "كورونا"، لكن سيكون من الانتحار السياسي أن يعلن "فاوتشي" أن المدارس يجب أن يُعاد فتحها -سوف يثور المجتمع الطبي ضده- والإنسان السياسي ليس انتحاريًا.

 

لذلك، دعم "فاوتشي" طلب المجتمع الطبي بالإغلاق الوطني لمدة غير محددة.

 

ولكن ما سيكتشفه "فاوتشي" والمجتمع الطبي على الأرجح، هو الانقسام المتزايد في الرأي العام حول الإجراءات التي تم سنها لأنها لا تؤثر على الناس بالطريقة ذاتها.

 

باختصار، بات المسؤولون الطبيون في أوضاع لا يحسدون عليها، ولعلها من المرات القليلة التي باتت عجلة العالم فيها متوقفة على ما سيقوله أصحاب المعاطف البيضاء.

مقالات متعلقة