في يوم عرفة من كل عام تتغير كسوة الكعبة الشريفة التي تحتاج 675 كجم من الحرير الخام باللونين الأسود والأخضر، و220 كجم من خيوط الفضة الخالصة والمطلية بالذهب لنقش الآيات القرآنية، بتكلفة تتجاوز الـ 24 مليون ريال سعودي.
ذلك الجمال القدسي يتم صنعه على مدار 365 يوما في مجمع الملك عبد العزيز لكسوة الكعبة في مكة المكرمة، ولكن قبل أن تؤول صناعة الكسوة إلى الملك الراحل عبد العزيز آل سعود، مرت بمراحل عديدة.
رحلة مصر مع الكسوة
لعقود طويلة كان لمصر شرف تصنيع كسوة الكعبة، إذ كان المصريون يشتهرون بالبراعة في نسج أفضل وأفخر أنواع الأقمشة والثياب.
وحين كان يخرج المحمل بـ"كسوة الكعبة المشرفة" من القاهرة إلى بلاد الحجاز كان يشهد احتفالًا عظيمًا تتزيَّن له القاهرة ثلاثة أيام، وتتراقص الخيول في الشوارع خلف موكب الجِمال، يزفُّهم الناس بالطبل والزمر ويرفعون الرايات.
وكما يذكر المؤرخ "أبو الوليد الأزرقي" فإن مصر كانت مسؤولة عن تصنيع كسوة الكعبة منذ عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذ كان يوصي بأن تصنع كسوة الكعبة بالقماش المصري المعروف بالقباطي الذي اشتهرت بتصنيعه مدينة الفيوم وينسب اسمه إلى أقباط مصر، وكان يكتب إلى والي مصر عمرو بن العاص لطلبه.
وقيل: إن مصر كان لها حظ من التشريف في تغيير كسوة الكعبة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإلى جانب الأقمشة اليمنية التي غير بها النبي صلى الله عليه وسلم كسوة الكعبة استخدم قماش القباطي المصري، كما جاء في الروايتين اللتين أوردهما ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري.
واستمر الحال على ذلك في عهد في عهد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، إذ قرر للكعبة كسوتين من قماش القباطي المصري؛ الأولى بالحرير يوم التروية، والأخرى بالقباطي يوم السابع والعشرين من رمضان.
وسار الأمويون على نهجه فكسوها مرتين في العام؛ الأولى بالحرير يوم عاشوراء، والثانية بالقباطي المصري آخر شهر رمضان.
وحين جاء العباسيون إلى الحكم اهتموا اهتماما بالغا بكسوة الكعبة، فصنعوها بمدينة تنيس المصرية التي اشتهرت بصناعة أفخم أنواع الحرير وتطريزه.
ويذكر الفاكهي أنه رأى كسوتين من القباطي صنعتا بأمر الخليفة المهدي في مدينة تنيس في عامي 159 و162هجريا، وكسوة مصنوعة بأمر الخليفة هارون الرشيد عام 190 هجريا، وأخرى مصنوعة بأمر الخليفة المأمون عام 206 هجريا.
وعندما استولى الفاطميون على مصر، وبسطوا سلطانهم على بلاد الشام والحجاز واليمن، وأقاموا خلافة شيعية منافسة للخلافة العباسية السنية، قاموا بإرسال كسوة الكعبة من مصر لإضفاء الشرعية على حكمهم، في وقت كانت الحرب الدعائية على أشدها بينهم وبين العباسيين.
وشارك الأيوبيون أيضاً في إرسال كسوة للكعبة رغم حروبهم مع الصليبيين، وأشهرها الكسوة التي خرجت بها شجرة الدر أثناء ذهابها للحج والتي كانت أول كسوة تحمل على محمل، وأصبح هذا الأمر تقليداً متبعا.
وفي الدولة المملوكية وعهد السلطان الظاهر بيبرس، كانت الكسوة ترسل من مصر، إذ كان المماليك يرون أن هذا شرف لا يجب أن ينازعهم فيه أحد، فقد أراد ملك اليمن "المجاهد" في عام 751هـ أن ينزع كسوة الكعبة المصرية ليكسوها من اليمن، فلما علم بذلك أمير مكة أخبر المصريين فقبضوا عليه.
الاحتفال بالمحمل
وفي عهد الظاهر بيبرس بدأ الاحتفال بالمحمل، فكان يطوف القاهرة لمدة 3 أيام، ويصاحبه الطبل والزمر، ورقص الخيول، وخلفه الجمال التي تحمل المياه وأمتعة الحجاج وخلفه الجند الذين يحرسون الموكب حتى الحجاز ومن ورائهم رجال الطرق الصوفية الذين يدقون الطبل ويرفعون الرايات.
وللمحمل أربع قمم من الفضة المطلية بالذهب في الزوايا الأربع، ويوضع داخل المحمل مصحفان صغيران داخل صندوقين من الفضة المذهبة معلقين في القمة إضافة إلى الكسوة الشريفة، ويوضع المحمل على جمل ضخم يسمى (جمل المحامل) ويتمتع هذا الجمل بإعفائه من العمل بقية أيام السنة.
ولما كانت تكلفة كسوة الكعبة مرتفعة للغاية، أمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بوقف خراج قريتين بالقليوبية هي قرى باسوس وأبو الغيث، وكان يتحصل من هذا الوقف على 8900 درهم سنويا، لهذا الشأن.
وبعد أن سيطر السلطان العثماني سليم الأول على بلاد الشام، ودخل القاهرة أمر بإعداد كسوة الكعبة المشرفة، وكسوة حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكسوة مقام إبراهيم عليه السلام، كما صنع كسوة جديدة للمَحمل، وكتب اسمه على هذا الكساء الذي كان غاية في الإتقان والزخرفة.
ومنذ ذلك الحين ظلت كسوة الكعبة المشرفة تُرسل سنويا من مصر من ريع الوقف الذي وقفه الملك الصالح إسماعيل، إلى أن جاء السلطان سليمان القانوني، فوجد أن ريع هذا الوقف قد ضعف وعجز عن الوفاء، فأمر بشراء سبع قرى إضافة إلى الثلاث السابقة عام 947هـ، لتصبح عشر قرى، ينفق من ريعها على الكسوة الشريفة، فأصبح وقفا عامرا فائقا مستمرا.
آخر محمل من مصر
واستمرت مصر في إرسال الكسوة والمحمل إلى مكة المكرمة حتى عام 1221هـ. إلا أنه في العام الثاني في عهد الإمام سعود الكبير، تقابل مع أمير المحمل المصري وأنكر عليه ما يصاحب المحمل من طبل وزمر وخلافه، وحذره من معاودة المجيء إلى الحج بهذه الصورة.
وتوقفت مصر عن إرسال الكسوة الخارجية، فكساها الأمير سعود الكبير كسوةً من القز الأحمر، ثم كساها بعد ذلك بالديباج والقيلان الأسود من غير كتابة، وجعل إزارها وكسوة بابها (البرقع) من الحرير الأحمر المطرز بالذهب والفضة.
وظلت كسوة الكعبة المشرفة تُرسل إلى السعودية من مصر عبر القرون، باستثناء فترات زمنية قصيرة ولأسباب سياسية، إلى أن توقف إرسالها نهائيا من مصر سنة 1381هـجريا.
وكان آخر "محمل" خرج من مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وعاد قبل أن يصل إلى الأراضي السعودية بسبب خلافات سياسية آنذاك، لتبدأ المملكة صناعة كسوة الكعبة في منطقة أم الجود، ثم نقلت الصناعة إلى منطقة أجياد، وهناك تستمر صناعة الكسوة حتى الآن.
السعودية تتولى صناعة الكسوة
وفي عام 1925م شرعت السعودية في صناعة كسوة الكعبة بمكة المكرمة، إذ شهد هذا العام أول حلة للكعبة تصنعها المملكة، ويتم استبدالها في اليوم التاسع من ذي الحجة من كل عام.
وفي عام 1928 أنشأ الملك الراحل عبد العزيز آل سعود مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة، وافتتحه عام 1977، ويعمل فيه أكثر من 240 صانعا وإداريا.
الكسوة التي تغطي الكعبة بارتفاع يصل إلى 15 مترا وعرضها يختلف بين جهاتها الأربعة، مصنوعة من الحرير الخام ومطرزة بآيات من القرآن الكريم من خيوط الذهب والفضة، ومبطنة من الداخل بقماش أبيض قطني.
ويوجد في الثلث الأعلى من الكسوة حزام مطرز بالذهب والفضة كتب عليه آيات قرآنية بالخط الثلث المركب، محاطة بإطار من الزخارف الإسلامية، ويبلغ طوله 45 مترا، ويتألف من 16 قطعة، ويوجد تحت الحزام على الأركان سورة الإخلاص مكتوبة داخل دائرة محاطة بشكل مربع من الزخارف الإسلامية.
وتنسج الكسوة الخارجية بنقوش من خيوط ذهبية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، يامنان يالله، وتكرر على هذه العبارات على قطع قماش الكسوة جميعها.
وفي موسم الحج كل عام تُبدل كسوة الكعبة في صبيحة يوم عرفات، إلا أنه هذا العام جرى تبديلها ليلة عرفات في ظل إجراءات احترازية مشددة نظرا لتفشي فيروس كورونا المستجد.