سنوات من الشقاء والتعب أقبل عليها الأب بحبّ كبير، جسّد خلالها المعنى الحقيقي للتضحية، فقط من أجل عيون صغيرته التي جاءت إلى الدنيا بإعاقة منعتها من الحركة نتيجة قصر قامتها، وهو ما كان يدفعه لحملها من البيت إلى المدرسة ثمّ إلى الجامعة دون أن يكل أو يملّ أو يتأفف يومًا، بل إنه تفرغ لها.
وكان يقطع مسافة ليست بالقصيرة من محل سكنهم بالمنوفية إلى جامعتها في بنها كي يقوم بمهمته المعتادة بتوصيلها وانتظارها لحين انتهاء محاضراتها..
أما الأم فكانت كالجندي المجهول تعمل في الخفاء وتسهر على راحة طفلتها ذات الظروف الخاصة إلى أن كبرت، ولكن كانت الصدمة حينما تخرجت الفتاة وأنهت تعليمها، فبعد تكبد كل هذا العناء فوجئت بإغلاق أبواب العمل في وجهها بزعم أن إعاقتها ستكون حائلًا دون أداء المهام المطلوبة منها، وهو ما كان بمثابة حكم بالموت عليها وهي مازالت على قيد الحياة وتحلم بتقديم الكثير، بما تمتلكه من إمكانيات وعلم، درسته وتلقته على مدار سنوات عمرها.
شاهد الفيديو
أنهار بيومي عبد المهدي المعروفة بين أقرانها بـ "أنهار المهدي"، هي فتاة عشرينية تقطن منطقة ريفية بمحافظة المنوفية، حاصلة على بكالوريوس تجارة قسم إدارة أعمال من جامعة بنها، وهي من القلائل المميزين أصحاب القامات القصيرة، وهو ما لم يتعامل معه البعض من حولها كما ينبغي أن يكون وكأن صلاحيتها في الحياة انتهت بسبب إعاقتها المتعلقة بالتقزم.
فبعد مرور 18 عامًا؛ اعتاد خلالها الأب على حمل ابنته "أنهار" من البيت إلى المدرسة ثم إلى الجامعة في بنها، تخللهما عامين معهد، اثبتت خلالها الفتاة صاحبة الـ25 عامًا أنها قادرة على تخطي الصعاب بإنهاء مراحل تعليمها بنجاح وتحدي اعاقتها، كانت الصدمة حينما عادت إلى بيتها في قرية كفر الشيخ إبراهيم بمركز قويسنا التابع لمحافظة المنوفية، حاملة شهادة تخرجها وهي تظن أنها بذلك فعلت ما عليها، وحان وقت جني ثمار رحلة شقائها هي واسرتها، لتفاجئ بنفسها تجلس إلى جوار الشهادة لعام كامل بعدما عجزت عن الحصول على فرصة عمل مثل باقي زملائها والسبب "اعاقتها"، وكأن كل هذه السنوات ضاعت من عمرها هباءً.
تقول أنهار: "أبي تعب معي كثيرًا فكان يأخذني من البيت في المنوفية إلى خارج البلد لنستقل سيارة ومنها ننزل الإشارة لناخذ سيارة ثانية حتى الجامعة ببنها، فضلا عن مسافة طويلة كان يقطعها سيرًا من باب الجامعة إلى المدرج، ولا أنسى جلوسه طوال اليوم في انتظاري لحين الانتهاء من كافة محاضرتي ثم يقوم بالمهمة ذاتها بحملي في رحلة عودتنا إلى المنزل".
لهذا حلمت الفتاة أن يتم صرف سيارة لها نظرًا لظروفها الخاصة، حيث تقول: "بالفعل تقدمت بطلب الحصول على سيارة ولكن تم رفض طلبي رغم أنها أبسط حقوقي التي أردت الحصول عليها من أجل رفع المعاناة ومشقة التنقل بي من على كاهل والدي".
واستكملت حديثها قائلة: والدي هو ضابط بالقوات المسلحة، وأيام دخولي مرحلة الثانوي والتحاقي الجامعة، خرج على المعاش كي يساعدني في اتمام تعليمي، وتفرغ لي لنقلي لدروسي ومدرستي ثم جامعتي، لذا فأنا اتساءل الآن "هل بعد كل هذا العناء تكون النتيجة عدم قبولي بالعمل لاعاقتي فمثلما كنت اتوجه للمدرسة والجامعة وحصلت على البكالوريوس في إدارة الأعمال، سأتمكن من العمل، فأنا اجيد التعامل مع الحاسب ويمكن تسكيني في أعمال يتم انهائها على الحاسوب".
لم تكن مشقة الانتقال واتمام التعليم هي الصعوبات فقط التي كانت تواجه "أنهار" ولكن نظرات وتمتمات من حولها كانت دائمًا ما تلاحقها اينما ذهبت، وهو ما أثر بالسلب على نفسيتها ولكنها كانت سرعان ما تتجاوز الأمر حتى تحقق حلمها وحلم والديها.
تقول "أنهار": كان كل حلمي وحلم والداي أن اتعلم واتحدى العجز الذي أمر به ولا أكون أقل من غيري في شئ ، وبالفعل هذا ما حدث، فحققت كل ما أريد ولكن لم أتمكن من الحصول على فرصة عمل عقب التخرج.
لم تنس "أنهار" فضل والدتها قائلة: أمي ايضًا تعبت معي كثيرًا ولازالت، وتساعدني في الكثير من الأمور، فهي بمثابة ساعدي الأيمن هي ووالدي، أما صديقاتي فأنا ممتنة لهن كونهن شجعوني على تدوين مشكلتي بعدما عجزت عن الحصول على فرصة عمل ليس لنقص خبرة أو علم مني ولكن لاعاقة ليس لي دخل فيها.
إلى جانب أحلام "أنهار" البسيطة بالحصول على فرصة عمل، واحترام المواطنين لاختلاف هيئتها عنهم لقصر قامتها، تتمنى الفتاة أن تلتقي بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قائلة: "نفسي بس اشوفه عشان يكرم بابا وماما على تعبهم معايا".