بعد 8 سنوات من المفاوضات، فاجأت الصين العالم، أمس الأحد، بتوقيع اتفاقية "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، مع 14 دولة من منطقة آسيا والمحيط الهادئ، الأمر الذي رجح محللون اقتصاديون أن يعزز طموحات الصين الجيوسياسية الإقليمية، ونفوذها العالمي، في مواجهة الولايات المتحدة، التي لم تشارك في الاتفاقية.
وتضم الاتفاقية، وهي أكبر اتفاق للتجارة الحرة على مستوى العالم، عشر دول في جنوب شرق آسيا إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا (أي 2,1 مليار نسمة)، وتساهم الدول المنضوية فيه بنحو 30 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي العالمي.
وتم توقيع الاتفاق افتراضيا في ختام قمة برئاسة فيتنام، لقادة دول جنوب شرق آسيا، الساعين لإنعاش اقتصاداتهم المتضررة جراء كوفيد-19.
ولا يشمل الاتفاق الولايات المتحدة ويعد بديلا تقوده الصين لمبادرة واشنطن التجارية التي لم تعد مطبّقة حاليا.
وانسحبت الهند من الاتفاق العام الماضي جراء قلقها حيال المنتجات الصينية زهيدة الثمن التي سيفسح المجال لدخولها إلى البلاد وكانت الغائب الأبرز خلال مراسم التوقيع الافتراضية الأحد. لكن لا يزال بإمكانها الانضمام إلى الاتفاق في موعد لاحق إذ اختارت ذلك.
وقالت فيتنام إن الشراكة تغطي 30%، من الاقتصاد العالمي والنسبة ذاتها من سكان العالم وتصل إلى 2.2 مليار مستهلك.
وفي تعليقه على الاتفاق، قال خبير التجارة لدى كلية الأعمال التابعة لجامعة سنغافورة الوطنية ألكساندر كابري إن الاتفاق، الذي ينص على خفض الرسوم الجمركية وفتح تجارة الخدمات ضمن التكتل، "يرسخ طموحات الصين الجيوسياسية الإقليمية الأوسع حيال مبادرة الحزام والطريق"، في إشارة إلى مشروع بكين الاستثماري الهادف إلى توسيع نفوذ الصين عالميا.
لكن العديد من الدول الموقعة على الاتفاق تواجه تفشيا واسعا لفيروس كورونا المستجد وتأمل في أن يساهم اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة في التخفيف من وطأة الكلفة الاقتصادية الكبيرة للوباء.
وقالت ديبورا إيلمز المديرة التنفيذية للمركز التجاري الآسيوي، وهو معهد استشارات مقره سنغافورة:" ذكّر كوفيد المنطقة بالسبب الذي يجعل من التجارة أمرا مهما فيما الحكومات متحمّسة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق نمو اقتصادي إيجابي".
ورأت أن الاتفاقية التي تعود فكرتها إلى عام 2012 تمثل نقلة هائلة "لمنتجي السلع.. فما ليس لدينا الآن هو الكثير من التجارة الآسيوية للأسواق النهائية في آسيا، وهذه (الاتفاقية) تحقق ذلك".
ومن شأن الاتفاق أن يخفض التكاليف ويسهّل الأمور على الشركات عبر السماح لها بتصدير المنتجات إلى أي بلد ضمن التكتل دون الحاجة للإيفاء بالمتطلبات المنفصلة لكل دولة. كما يتطرق الاتفاق إلى الملكية الفكرية، لكنه لا يشمل حماية البيئة وحقوق العمال.
كما يُنظر إلى الاتفاق على أنه وسيلة للصين لوضع قواعد التجارة في المنطقة، بعد سنوات من تراجع دور الولايات المتحدة فيها خلال عهد الرئيس دونالد ترامب الذي شهد انسحاب واشنطن من اتفاق تجاري تابع لها هو "اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ".
ورغم أنه سيكون بإمكان الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات الاستفادة من اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة عبر فروعها في عدد من البلدان المنضوية فيه، إلا أن المحللين يشيرون إلى أن الاتفاق قد يدفع الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن لإعادة النظر في انخراط واشنطن في المنطقة.
ونقلت وكالة "أسوشيتدبرس" الأمريكية عن كبير خبراء اقتصاد منطقة آسيا والمحيط الهادئ لدى "آي إتش إس ماركيت" راجيف بيزواس قوله، من شأن الاتفاق أن يدفع الولايات المتحدة للنظر في المميزات المحتملة للانضمام إلى اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة.
وأضاف "لكن لا يتوقع أن تمنح هذه المسألة أولوية، نظرا لردود الفعل السلبية الواسعة على مفاوضات اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ من قبل فئات عديدة من الناخبين الأمريكيين جرّاء المخاوف المرتبطة بخسارة الوظائف لصالح دول آسيوية".
ويساعد اتفاق الشراكة الاقتصادية بكين على تقليص الاعتماد على أسواق وتكنولوجيا الخارج، بحسب إريس بانج، كبيرة اقتصاديي آي.ان.جي لشؤون الصين، والتي أشارت إلى أن الخلافات المتزايدة مع واشنطن عجلت بهذا التحول.
وللصفقة تداعيات رمزية قوية، وتظهر أنه بعد أربع سنوات تقريبًا من إطلاق ترامب لسياسته "أمريكا أولاً" لإبرام صفقات تجارية مع البلدان بشكل فردي، لا تزال آسيا ملتزمة بالجهود المتعددة نحو تجارة أكثر حرية، والتي يُنظر إليها على أنها صيغة للازدهار في المستقبل.
وقال رئيس الوزراء الصيني "لي كه تشيانغ" بعد مراسم التوقيع الافتراضية: "في ظل الظروف العالمية الحالية، يوفر التوقيع على اتفاق الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة بصيص نور وأمل، ويظهر بوضوح أن التعددية هي الطريق الأمثل ويمثل الاتجاه الصحيح لتقدم الاقتصاد العالمي والبشرية".