رغم صراعاتها السياسية وحروبها الضارية على كعكة المناصب والغنائم، إلا أن القوى السياسية في لبنان نحت كل ذلك جانبا، واتفقت ولو لبرهة قصيرة على تصويب مدافعها صوب عدو مشترك، هو القاضي فادي صوان، المكلف بالتحقيق في الانفجار المروع الذي ضرب مرفأ بيروت في أغسطس الماضي، وبالفعل نجحت في إطاحته من منصبه اليوم الخميس.
استبعاد صوان جاء على خلفية الخطوة الجريئة التي اتخذها بتوجيه اتهامات في ديسمبر الماضي لثلاثة وزراء سابقين ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بالإهمال فيما يتعلق بالانفجار الذي يعد أقوى انفجار غير نووي في التاريخ، وأدى لتفاقم الضغوط على بلد يكابد أسوأ أزمة منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.
ورفض دياب استجوابه قائلا إن صوان تجاوز نطاق سلطاته. فيما قال اثنان من المتهمين الآخرين، هما علي حسن خليل وزير المال السابق وغازي زعيتر وزير الأشغال العامة السابق، في ديسمبر الماضي إنهما لم يتلقيا إبلاغا رسميا بالاستدعاء للاستجواب كما يقضي البروتوكول. وكان من المقرر استجواب الوزير السابق الثالث، وهو يوسف فنيانوس، اليوم الخميس لكنه قال أيضا إنه لن يحضر الجلسة.
وتقدّم زعيتر وخليل المقربين من رئيس البرلمان نبيه بري، بمذكرة أمام النيابة العامة التمييزية طلبا فيها نقل الدعوى إلى قاض آخر، بعدما اتهما صوان بخرق الدستور بادعائه على وزيرين سابقين ونائبين في البرلمان، بينما يتمتع هؤلاء بحصانة دستورية ويفترض أن تمرّ ملاحقتهم بمجلس النواب، وفق معارضي قرار الادعاء.
وعلّق صوان بعدها التحقيقات لقرابة شهرين قبل أن يستأنفها الأسبوع الماضي بعدما أعادت محكمة التمييز الملف إليه في انتظار البتّ في طلب الوزيرين.
وقال مصدر قضائي لوكالة فرانس برس، "قررت محكمة التمييز الجزائية برئاسة القاضي جمال الحجار نقل ملف التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت من يد القاضي صوان إلى قاض آخر" لم تسمه بعد.
وبحسب المصدر القضائي، فإن المحكمة اعتبرت أن "ارتياب" الوزيرين في "حياد المحقق العدلي مشروع" كون القاضي من المتضررين من الانفجار بعد تعرّض منزله لأضرار، واعتبرت أن ذلك "يصعّب عليه اتخاذ القرارات في الدعوى التي يحقق فيها مع المحافظة على تجرده".
ومنذ تعيينه في 13 أغسطس، يحقّق صوان في الانفجار الذي عزته السلطات إلى تخزين كميات هائلة من نيترات الأمونيوم لسنوات في أحد عنابر المرفأ من دون إجراءات وقاية. وتبين أن مسؤولين على مستويات عدة سياسية وأمنية وقضائية كانوا على دراية بمخاطر تخزينها من دون أن يحركوا ساكناً.
خطوة استبعاد صوان ستؤدي على الأرجح لمزيد من التأخير في التحقيق الذي يواجه معارضة سياسية شرسة. وما زال اللبنانيون ينتظرون إجابات بعد مرور أكثر من ستة أشهر على انفجار كمية من نترات الأمونيوم كانت مخزنة بالمرفأ لسنوات في وضع لا يضمن السلامة مما أدى لمقتل 200 شخص وإصابة الآلاف وتدمير أحياء بأكملها.
وخليل وزعيتر نائبان عن حركة أمل، الحزب الشيعي الذي يقوده رئيس البرلمان نبيه بري. وبري حليف لجماعة حزب الله التي تعتبرها الولايات المتحدة منظمة إرهابية. واتهمت حركة أمل صوان بانتهاك الدستور. ويقول حزب الله إن الاتهامات تنم عن "استهداف سياسي".
وواجه صوان أيضا معارضة من رئيس الوزراء السني المكلف سعد الحريري. كما أن فنيانوس ينتمي للتيار الوطني الحزب الذي أسسه الرئيس اللبناني ميشال عون ويقوده صهره جبران باسيل، حليف لحزب الله وفرضت عليه وانشطن عقوبات بسبب صلاته بالجماعة.
في المقابل دافع المحامي يوسف لحود رئيس نقابة المحامين في بيروت عن خطوة استجواب دياب والوزراء الثلاثة، وقال إن خطوة اتهام الأربعة تنم عن شجاعة من قبل صوان. وأضاف أن الأمر بات الآن في يد وزير العدل لتعيين قضاة آخرين من أجل تولي التحقيق بموافقة من مجلس القضاء الأعلى.
من جانبه قال المحامي نزار صاغية، المدير التنفيذي للمفكرة القانونية، وهي منظمة غير قانونية تعنى بشرح القوانين، لفرانس برس إن "مجرد أن يرفض الوزراء والطبقة السياسية أن يكونوا موضع محاسبة، فهم بذلك يضعون خطاً أحمر للتحقيق، وهذا أمر خطير للغاية". واعتبر أن "وضع خطوط حمر، وهو أمر تقليدي في لبنان، يحول دون تحقيق أي عدالة".
وشدّدت الباحثة في منظمة هيومن رايتس ووتش في بيروت آية مجذوب على أن إبعاد صوان بسبب مذكرة تقدّم بها وزيران سابقان ادعى عليهما هو "استهزاء بالعدالة وإهانة لضحايا الانفجار والشعب اللبناني". واعتبرت أن "المحاكم رسمت الخطوط الحمراء: لا يخضع السياسيون لسيادة القانون"، مضيفة "بعد أكثر من ستة أشهر، عدنا الى نقطة الصفر".
وقالت مجذوب إنه "يجب أن تنتهي هذه المسرحية. نحتاج إلى إجابات أظهر لبنان انه غير قادر على توفيرها"، مجددة المطالبة بـ"تحقيق دولي مستقل في اقرب فرصة ممكنة". ورفض لبنان إجراء تحقيق دولي في الانفجار، إلا أن فريق محققين فرنسيين ومن مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي شارك فيه. ولا يزال لبنان ينتظر تسلم التقرير الفرنسي لتحديد سبب الانفجار.
وتتعرض الطبقة السياسية بأكملها في لبنان لاتهامات بالفساد واستغلال النفوذ. وقامت في لبنان في أكتوبر 2019 تحركات احتجاجية تطالب بمحاسبة وإسقاط كل الطبقة السياسية استمرت أشهرا ونجحت في إسقاط حكومة آنذاك برئاسة سعد الحريري، لكن لم يتغير شيء في الأداء السياسي.
ولم تسفر التحقيقات في الانفجار عن أي نتيجة معلنة حتى الآن رغم توقيف 25 شخصاً على الأقل، بينهم مسؤولون عن إدارة المرفأ وأمنه. وقالت "هيومن رايتس ووتش" إن هؤلاء ما زالوا "رهن الاحتجاز دون توجيه اتهامات واضحة، في ظروف تنتهك حقوقهم في الإجراءات القانونية الواجبة".
وأجّج الانفجار غضب الشارع الذي بات يحمل الطبقة السياسية أيضاً مسؤولية الكارثة بعدما تبين أن الأجهزة الأمنية ومسؤولين سابقين وحاليين من الجمارك وإدارة المرفأ والحكومة كانوا على علم بمخاطر تخزين نيترات الأمونيوم في المرفأ.