راشيل كوري.. 18 عامًا على دهس «سفيرة السلام» والقاتل بلا عقاب

راشيل كوري امريكية اغتالتها جرافات الاحتلال

قبل 18 عاما جاءت فتاة أمريكية الجنسية إلى الأراضي المحتلة، كانت ترفض قتل الأطفال الفلسطينيين على يد جنود الاحتلال الإسرائيلي، فاختارت أن تواجه الموت في سبيل السلام، دفعت دمائها ثمنا لإيمانها بحقوق الشعب الفلسطيني، فرحلت هي عن العالم ولايزال الاحتلال يواصل جرائمه دون عقاب.

 

يصادف اليوم 16 مارس ذكرى رحيل المناضلة الأممية راشيل كوري، أمريكية الجنسية فلسطينية الانتماء، التي اغتالتها جرافة الصهاينة بطريقة وحشية وهي تقف في وجه طغيانهم في محاولة منها على ضعفها لمنع جيش الاحتلال من هدم منازل الفلسطينيين فوق رؤوسهم بمدينة رفح بقطاع غزة أثناء الانتفاضة الثانية.  

 

 

راشيل حين ذهبت إلى الأراضي المحتلة كانت في بداية عقدها الثاني، ومع ذلك كانت تمتلك شجاعة جعلتها تواجه الموت دفاعا عن قوم ليس بقومها ولا من دياناتها، وإنما إيمانا منها بحق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام والاعتراف بأحقيتهم في دولة مستقلة لهم، وفي ذلك كانت تبث العديد من الرسائل المصورة التي توثق الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفسلطينيين.

 

جاءت راشيل كوري، الفتاة الشقراء ذات الشعر الأصفر والعيون الرمادية اللون، إلى قطاع غزة عام في عام  2003 إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهي تحمل على عاتقها حلم كان يروادها منذ صغرها بأن يغمر السلام هذا العالم، فكان مصيرها أن يتهشم جسدها النحيف أسفل عجلات جرافة إسرائيلية، قضت على حياتها وهي في مهد حلمها.

 

 

السلام الذي كانت تحلم به راشيل كوري كان ينبعث على قسمات وجهها الذي يبدو عليه براءة الأطفال الذين كانت تدافع عن حقهم بأن يعيشوا حياة آمنة بعيدا عن غدر الصهيانة، ومن أجله تركت بلادها بما فيها من أمن وآمان وترفيه واستقرار، وذهبت إلى تلك البلدة التي خربها الاحتلال ودمر بناياتها حتى هجرها الكثير من أُناسها وتشرد أهلها بعد احتلال أراضيهم. 

 

 

كانت تريد راشيل كوري، الناشطة الأمريكية في مجال حقوق الإنسان، أن تنقل الواقع الحقيقي الذي يعيشه أهل فلسطين، والمأساة التي يعيشونها في هذا العالم الذي وصفته بـ"البشع"، وتسجيل ممارسات التعذيب اليومي الذي يتعرض له الفلسطينيون، فشاركتهم حياتهم غير الآمنة، وسكنت منازلهم البسيطة، وتقاسمت معهم ضنك العيش تحت الحصار وأهوال الاحتلال.

"إني أشهد هذا التطهير العِرقي المزمن وخائفة جدًا، وأراجع معتقداتي الأساسية عن الطبيعة الإنسانية الخيّرة، هذا يجب أن يتوقف، أرى أنها فكرة جيدة أن نترك كل شيء ونكرّس حياتنا لجعل هذا يتوقف، أشعر بالرعب وعدم التصديق"، هكذا قالت راشيل في إحدى رسائلها من غزة إلى أمها قبل رحيلها.

عاشت راشيل كوري عدة أسابيع في فلسطين، سكنت في بيت متواضع لطبيب فلسطينى مع أسرته، وحين كان يحل الليل تجلس في غرفتها تكتب رسائلها إلى أمها، تحكي فيها عن بشاعة الاحتلال.

 

تقول راشيل فى إحدى رسائلها :"ما أشعر به يسمى عدم تصديق ورعب، خيبة أمل، أشعر بالانقباض من التفكير في أن هذه هي الحقيقة الأساسية في عالمنا وأننا جميعنا نساهم عمليًا فيما يحدث، لم يكن هذا هو ما أردته عندما جئت إلى هذه الحياة، ليس هذا ما كان ينتظره الناس هنا عندما جاءوا إلى الحياة، وليس هذا هو العالم الذي أردتِ أنت وأبي أن آت إليه عندما قرّرتما إنجابي".

 

 

حاولت راشيل أن تنقل جزء مما شاهدته في الواقع الفلسطيني في رسائلها لأمها، قائلة "اعتقد أن أي عمل أكاديمي أو أي قراءة أو أي مشاركة بمؤتمرات أو مشاهدة أفلام وثائقية أو سماع قصص وروايات، لم تكن لتسمح لي بإدراك الواقع هنا، ولا يمكن تخيل ذلك إذا لم تشاهده بنفسك، وحتى بعد ذلك تفكر طوال الوقت بما إذا كانت تجربتك تعبر عن واقع حقيقي".

وفي صبيحة يوم 16 من مارس عام 2003 حان الوقت لتقدم حياتها فداء لحلمها بالسلام ودفاعا عن أحقية شعب بالآمان، كانت تظن أن ملامحها الأجنبية قادرة على إنقاذ الفلسطينيين، فوقفت لأكثر من ساعتين أمام جرافة إسرائيلية كانت في طريقها لهدم أحد المنازل في مدينة رفح بقطاع غزة.

 

كانت تحسب الفتاة الشقراء، ذات الـ 23 عاما، أن سائق الجراف الإسرائيلي سيتراجع أمام جنسيتتها الأمريكية فتحول دون الهدم، إلا أنه حملها لأعلى الجراف ليختلط جسدها النحيف بتراب الهدم، ثم راح يطرحها أرضا، ويدهسها تحت عجلاته مرتين، فتكسرت جمجمتها وذراعيها وساقيها.

 

ورغم أن السائق كان يرى راشيل، بحسب ما رواه النشطاء الذين كانوا معها حينها، إلا أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قال إن "كوري" قُتلت أثناء تعطيلها للعمليات الميدانية للجرافات العسكرية.

 

هذه الفتاة التي لايزال يُحيي العالم ذكراها، هي ناشطة أمريكية في مجال حقوق الإنسان، وُلدت في 10 إبريل عام 1979، في أوليمبيا، وهي بلدة صغيرة على الساحل الغربي للولايات المتحدة.

 

ومنذ أن كانت "راشيل" طفلة لم يتجاوز عمرها الـ 10 سنوات، كان يرادوها حلم كبير رغم صغر سنها، وهو أن يغمر السلام العالم، كانت تنادي بإنقاذ آلاف الأشخاص من الموت جوعًا، وهي في ذلك السن الصغير، وعلى هذا كبرت الطفلة وسارت فتاة تنادي بالسلام ودفعت عمرها دفاعا عنه.

 

فلم تكن راشيل كغيرها من الفتيات في مثل عمرها، فبدلا من أن تقضي إجازاتها على شواطيء مدينة سياتل الساحلية القريبة من بلدتها، كانت تنضم إلى الحركات الطلابية التي تدعو للتضامن والسلام، وأصبحت عضوة في حركة التضامن العالمية "ISM".

 

 

وسافرت راشيل كوري إلى قطاع غزة بفلسطين المحتلة أثناء الانتفاضة الثانية، بعد أن بدأت في النضال من أجل السلام، فألحت عليها الرغبة في الذهاب للمعاينة على الأرض.

 

في هذه الأثناء كانت تشهد الأراضي المحتلة الانتفاضة الثانية عام 2000، وآنذاك كان سكان الأرض الفلسطينية الصغيرة يعيشون مع توغل جيش الاحتلال، الذي يقوم بعمليات اعتقال وتفجيرات وتدمير للمنازل، لذا كانت تحاول المنظمات غير الرسمية لحقوق الإنسان أن تذهب إلى فلسطين لنقل معاناتهم إلى العالم.

 

وحين سافرت راشيل إلى غزة، أخذت تكتب عن مرارة الاحتلال ومعاناة الفلسطينيين، ودمائهم التي تسيل ليلا نهارا أمام عينها، وعن الغارات التي تؤرق منامهم وهم سالمين في منازلهم، والجرافات الإسرائيلية التي تهدم البيوت على رؤوس أصحابها، قبل أن تدهسا أحدهم.

 

 

ومن بين الرسائل التي كتبتها راشيل، قالت :""هذا يجب أن ينتهي، يجب علينا أن نترك كل شيء آخر ونكرس حياتنا للتوصل إلى إنهاء هذا الوضع، لا أظن أن هناك ما هو أشد إلحاحًا، أرغب في التمكن من الرقص، وأن يكون لي أصدقاء ومحبون، وأن أرسم قصصًا لأصدقائي، لكنني أريد قبل أي شيء آخرأن ينتهي هذا الوضع".

 

 

وقبل سفر "راشيل" إلى فلسطين كان والديها غير مهتمين بالصراع العربي الإسرائيلي، ويعلمون عن القضية الفلسطينية ما يعلمه بقية من لم يذهب إلى الأراضي المحتلة ويرى بعينه كم يعاني شعبها، ولكن بعد أن عايشتهم "راشيل" وأرسلت الرسائل إلى أهلها، عرفوا أنهم كانوا بمعزل عن القضية، كما صرحت بذلك والداتها "سيندي" لصحيفة غارديان بعد مقتل ابنتها.

 

"كان تعاطفنا مع الرواية الإسرائيلية اليهودية، ﻷن هذا ما نعرفه، (…) أما الرواية الفلسطينية فلم تكن موجودة بالنسبة إلينا على الإطلاق، ربما كنا معزولين بعيدًا عن القضية، كنا نعرف عنها بالطريقة التي عرفها معظم الأمريكيين، عن طريق التقارير الإخبارية" هكذا قالت والدة راشيل.

 

وبعد مقتل "راشيل" أنشأ أبويها "مؤسسة راشيل كوري للسلام والعدالة"، لاستكمال مسيرة الفتاة ضد الهدم، وهي مؤسسة تحاول نشر ثقافة التعاون وتقبُّل الآخر، وترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

 

ورفعت أسرة راشيل دعوى قضائية ضد الجيش الإسرائيلي، إلا أن المحكمة رفضت وبرأت جيش الاحتلال، وفي عام 2015 قوبل الاستئناف إلا أنه أيضا لم يتحقق شيء.

 

وبعد مقتل راشيل فتح الجيش الإسرائيلي تحقيقا في مقتل الناشطة، وقد أفاد سائق الجرافة في التحقيق أنه لم يشاهدها، وأغلق لمدعي العام في الجيش الإسرائيلي الملف بعد مرور 3 شهور على مقتلها تحت مبررات عدم وجود دلائل تعمد قتلها

 

وحتى الدولة التي تنتمي إليها راشيل لم تفعل شيء للقصاص لها، فحين قدم النائب الأمريكي براين بيراد في مارس 2003 مشروع قرار في الكونغرس الأمريكي يقضي بمطالبة الحكومة الأمريكية بإجراء تحقيق كامل في مقتل الناشطة كوري، لم يحرك الكونجرس ساكنا.

 

هكذا رحلت "راشيل" ذات الجنسية الأمريكية وهي تقف تتصدى لهدم المنازل في فلسطين، دهستها جرافات الاحتلال الإسرائيلي، لتصبح أول متطوعة أجنبية تُقتل في قطاع غزة، ودفاعا عن منازل أهلها، حتى سار اسمها مسجلا بأحد شوارع رام الله، إذ قال عنها الرئيس الراحل ياسر عرفات "إنها ابنة كل الفلسطينيين".

 

 

وفي ذكرى وفاتها الـ18 قالت البرلمانية والنائبة عن كتلة التغيير والإصلاح هدى نعيم، إن دماء راشيل كوري ستبقى لعنة تلاحق الاحتلال، وإن موتها جريمة ضد الإنسانية، وستبقى شاهدة على جرائم الاحتلال.

 

وتؤكد نعيم أن الشعب الفلسطيني سيبقى يتذكر تضحية راشيل كوري ونضالها في وجه آلة القتل الصهيونية، داعية لملاحقة الإسرائيلين في محاكم دولية كمجرمي حرب.

 

وفي هذا اليوم 16 مارس يمضى نحو 18 عاما على قتل "راشيل كوري" ولكن تبقى ذكراها وتضحياتها خالدة أبد الدهر، بعد أن أصبحت أيقونة ضمير العالم ضد وحشية الاحتلال الإسرائيلي وما يفعله بأهل غزة.

 

 

مقالات متعلقة