«يوسف صديق».. منقذ ثورة يوليو الذي ضحى به عبد الناصر وكرمه السيسي
"أبا الثوار هل ســامــحــت دمـــعـــي .. يفيـض و صـوت نعـيـك مـلء سمعي".. كلمات رثى بها "يوسف صديق" الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حين وفاته، رغم أنه سبق وأذاقه ظلمة الإقامة الجبرية في عهده، باعتباره واحدًا ممن أطلقوا شرارة ثورة 23 يوليو، ولكن جاء اليوم الذي يلقى فيه "صديق" تكريمًا على دوره في الثورة بعد مرور 43 عامًا على رحيله.
لم يحظ العقيد أركان حرب "يوسف صديق" طيلة حياته بتكريم يليق بدوره كأحد رموز ثورة يوليو، لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي، قرر منحه قلادة النيل، خلال الاحتفال بتخريج دفعات جديدة بالكليات العسكرية وإحياء الذكرى الـ 66 للثورة، ولكن من هو "يوسف صديق"؟.
هو "رجل عملاق أسمر ذو عينين حمراوين" هكذا وصف الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، يوسف صديق، أحد أبطال ثورة 23 يوليو أو منقذ الثورة حسبما روى المؤرخون وأقر بذلك الرئيس الراحل جمال عبد الناصر نفسه، ولكنه لم ينل من الشهرة والمناصب حظًا وفيرًا، بل كان مصير دفاعه عن أهداف الثورة إحدى زنزانات السجن الحربي .
ولد "صديق" في قرية تابعة لمركز الواسطى بمحافظة بني سويف عام 1910، ولقبه البعض بـ "الجندي المجهول" في ثورة يوليو، لما كان له من دور كبير في هذه الثورة، توارى خلف الوجوه التي تصدرت المشهد مثل جمال عبد الناصر وأنور السادات ومحمد نجيب.
وترجع بداية انضمام "صديق" لحركة الضباط الأحرار إلى أكتوبر عام 1951 حينما عرض عليه النقيب وحيد رمضان الذي تعرف عليه خلال حرب 1948، وأطلعه على برامجهم التي كانت تدعو إلى التخلص من الفساد وإرساء حياة ديمقراطية سليمة.
وكان يوسف الذي تم تعيينه مدرسا بالكلية الحربية، في طليعة القوات التي دخلت فلسطين عام حرب 1948، وكانت كتيبته هي أكثر الوحدات المصرية توغلا في الأراضي الفلسطينية، وتمكنت من الوصول إلى بلدة أشدود على مقربة من "تل أبيب"، واحتفظت بهذا الموقع حتى نهاية الحرب وانسحاب الجيش المصري إلى غزة.
ومضت الشهور حتى حانت لحظة الصفر، وكان صديق أحد أسباب نجاح الثورة، فقبل الموعد المحدد بقليل ذهب البكباشي يوسف صديق من العريش إلى مقر الكتيبة الجديد في معسكر الهايكستب ومعه معاونه عبد المجيد شديد.
اللجنة القيادية للثورة قررت أن تكون ليلة 23 يوليو هي ليلة التحرك، وأعطيت الخطة اسما كوديا "نصر" وتحددت ساعة الصفر في الثانية عشر مساء، إلا أن عبد الناصر عدلها إلى الواحدة صباحا وأبلغ ضباط الحركة بذلك إلا يوسف صديق لكون معسكره بعيدًا عن مكان التحرك، بحسب رواية أحمد حمروش أحد الضباط الأحرار في كتابه "قصة ثورة يوليو".
وبناء على الخطة القديمة تحرك صديق لينفذ أخطر عملية في ليلة الثورة بالقبض على هيئة أركان الجيش الملكي ، ليصل في تمام الساعة 12 من منتصف الليل، وهي ساعة الصفر، ورغم أنه تحرك في توقيت بغير الخطة النهائية لأنه لا يعلم، إلا أن هذا الخطأ كان سببًا لنجاح الثورة، وأكد بذلك جمال عبد الناصر في خطابه الذي ألقاه في الذكرى العاشرة للثورة.
وروى عبد الناصر في خطابه تفاصيل التحرك ليلة الثورة "كنا حوالي 90 ضابطًا يوم 22 يوليو..القوات كانت قليلة .. الخطة التي كانت موضوعة لم تكن أبلغت لكل الناس، بعد الظهيرة اجتمعت القيادة وتقرر في هذا اليوم أن تنفذ الثورة، وقبل الثورة بساعتين كشفت الخطة وأخو أحد الضباط أبلغ قصر عابدين، وجالي أحد الضباط في المخابرات وقالي أن الثورة اكتشفت..قولتله لابد أن نسير في العملية إلى النهاية .. العجلة دارت ولا يستطيع أن يوقف هذه العجلة".
وبعد كشف أمر الثورة يقول عبد الناصر إنه هو والضباط الأحرار كانوا على استعداد بالتضحية إذا لم تنجح الثورة، ويستطرد "كان علينا أن نغير خطتنا في آخر دقيقة..فذهبت إلى عبد الحكيم عامر لنحصل على قوات من العباسية، ولكن الطرف الآخر سبقنا، وكان البوليس الحربي قافل المداخل، قولنا نطلع على كمال حسين في ألماظة نجيب قوات لنعتقل القادة وفي السكة حصلت حادثة تدل على التوفيق ".
كان المفترض التحرك في الساعة الواحدة ولكن أحد الضباط اعتقد أنه الساعة 12، وبينما كان عبد الناصر في طريقه إلى كمال حسين التقى بهذا الضابط وهو "يوسف صديق" فقال له لماذا تحركت قبل الوعد فأجابه صديق أن التحرك الساعة 12، فقال له لا هو الواحدة ولكن تعالى معي نذهب للقيادة، حسبما ورد في خطاب عبد الناصر.
وبعد أن كان عبد الناصر يبحث عن قوات لينقذ الثورة، جاءته قوات يوسف صديق، فكانت هي القوة التي احتلت قيادة الجيش وألقت القبض عليهم جميعًا، وبهذا تمكنت الثورة من أن تسير في عملها، وهذا ما قاله عبد الناصر في الخطاب .
ولكن أحمد حمروش روى في كتابه "قصة ثورة 23 يوليو" أن يوسف صديق بعد تحركه من الهايكستب فوجيء ببعض جنوده يلتفون حول رجلين تبين أنهما جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، ولما استفسر يوسف عن سر وجودهما حدث جدال بينه و بين عبد الناصر، حيث رأي جمال خطورة تحرك يوسف قبل الموعد المحدد ضمن الخطة الموضوعة سابقا للثورة على أمن ضباط الحركة و نجاح الثورة.
ويضيف حمروش نقلا عن يوسف صديق، أن عبد الناصر طالبه بالعودة إلى الثكنات لكن صديق أبلغه عدم استطاعته العودة مرة ثانية دون إتمام العمل( الثورة)، وأن الثورة قد بدأت بالفعل حينما قامت قوته بالقبض على قائده اللواء عبدالرحمن مكي ثم الأميرالاي عبدالرؤوف عابدين( قائده الثاني)، وقرر أنه مستمر في طريقه إلى مبنى قيادة الجيش لاحتلاله.
تقدم صديق مستقلا عربة عسكرية ومن خلفه عربات الجنود، وفي الطريق أعد خطة بسيطة تقضي بمهاجمة مبنى قيادة الجيش، وبمجرد وصولهم اقتحم صديق وجنوده مبنى القيادة بعد معركة قصيرة مع الحرس سقط خلالها اثنان من جنود الثورة واثنان من قوات الحرس، ثم استسلم بقية الحرس فدخل يوسف مع جنوده المبنى، وفقا لرواية حمروش.
ولما دخل يوسف صديق مبنى القيادة وأراد الصعود إلى الطابق الأعلى اعترض طريقهم شاويش، حذره يوسف لكنه أصر على موقفه فأطلق عليه طلقة أصابته في قدمه، وعندما حاول فتح غرفة القادة وجد خلف بابها مقاومة فأطلق جنوده الرصاص على الباب ثم اقتحموا الغرفة، وهناك كان يقف الفريق حسين فريد قائد الجيش، والأميرالاي حمدي هيبة وضباط آخرون، فتم القبض عليهم.
وقال اللواء محمد نجيب عن يوسف صديق "أنا صفر على الشمال بالنسبة له؛ لأنه هو الذي دخل القشلاق وقيادة الجيش، هو راجل مقاتل.. مجلس الثورة كان يخشاه لأنه راجل شجاع وجدع".
وعقب نجاح حركة الضباط الأحرار دعا يوسف صديق إلى عودة الحياة النيابية، وخاض مناقشات عنيفة من أجل الديمقراطية داخل مجلس قيادة الثورة، و قال في مذكراته "كان طبيعيا أن أكون عضوا في مجلس قيادة الثورة، غير أن مجلس الثورة بدأ بعد ذلك يتجاهل هذه الأهداف، فحاولت أكثر من مرة أن أترك المجلس وأعود للجيش فلم يسمح لي بذلك، حتى ثار فريق من الضباط الأحرار على مجلس القيادة".
وبدأ صديق يستشعر أن مجلس القيادة يتجه إلى حكم عسكري ديكتاتوري، وليس حكما ديمقراطيا كما جاء في المبدأ السادس من مبادئ قيام حركة 23 يوليو.
ويضيف صديق في مذكراته أن مجلس القيادة اعتقل هؤلاء الثائرين وحاكمهم، فاتصل بالبكباشي جمال عبد الناصر وأخبره أنه لايمكنه أن يبقى عضوًا في مجلس الثورة ويعتبره مستقيلا، فاستدعاه عبد الناصر إلى القاهرة ونصحه بالسفر للعلاج في سويسرا في مارس 1953.
وطالب صديق في مقالاته ورسائله لمحمد نجيب بضرورة دعوة البرلمان المنحل ليمارس حقوقه الشرعية، وتأليف وزارة ائتلافية من قبل التيارات السياسية المختلفة من الوفد والإخوان المسلمين والاشتراكيين والشيوعيين، فكان مصيره اعتقاله هو وأسرته وإيداعه في السجن الحربي في إبريل عام 1954، وتم الإفراج عنه في مايو عام 1955.
ورغم ذلك إلا أنه حين توفى عبد الناصر رثاه يوسف صديق بقصيدة أسماها "دمعة على البطل" قال فيها :
أبا الثوار هل ســامــحــت دمـــعـــي .. يفيـض و صـوت نعـيـك مـلء سمعي
و كــنــا قـد تـعـاهـــدنــــا قـــديــمـــاً .. عـلــى تـرك الــدمــوع لـــذات روع
و إن الخـطــب يـحـسـم بالـتـصــدي .. لهـول الـخـطــب في سـيــف و درع
و لكـــن زلـــزل الأركـــان مــنــي .. و هـــز تمــاسـكـي مـن جــاء ينـعي
نعــاك و أنت مـــلء الأرض سعيــاً .. و ذكـــرك قـــائـم فـــي كــل ربـــع
بكتك عيون أهـل الأرض حــولـــي .. فـكـيـف أصـون بيـن النـاس دمعـي
قـضـيـت شهـيـد وحـدتـنـــا تـقـــوي .. روابـطـهـا و تـجـبـر كـــل صــدع
فــمــا للـعــرب في الدنـيــــا مكــان .. بـغـيـر تــمـــاســك و بـغيـر جـمـع
رسمت لنا الطريق و سوف نمضي .. عـلـى هـذا الـطـريــق بـغـيـر رجع
وظل يوسف صديق تحت الإقامة الجبرية في قريته ببني سويف حتى توفى في 31 مارس عام 1975، دون أن يحظى بتكريم يليق بدوره في ثورة يوليو.