رائد جبر يكتب :
التذمر من التردي المعيشي ينمي مزاجا إحتجاجيا في روسيا
منذ منتصف مارس الماضي، عندما شهدت عشرات المدن الروسية تظاهرات احتجاجية، رفعت شعار «مكافحة الفساد» برزت ظاهرة جديدة لم يكن المجتمع الروسي معتاداً عليها، وبدا أن السلطات لم تكن مستعدة لها.
صعود المزاج الاحتجاجي في البلد الذي شكّل، خلال السنوات الأخيرة، حائط الصدّ المنيع أمام «الثورات الملوّنة» التي شهدتها بلدان مجاورة في الفضاء السوفياتي السابق، دقّ ناقوس الخطر بالنسبة إلى الكرملين، كما أنه شكّل تطوّراً مفاجئاً بالنسبة إلى معاهد الدراسات الاجتماعية التي استبعدت طويلاً وقوع سيناريو من هذا النوع.
«روسيا ليست مثل أوكرانيا أو جورجيا، وهنا لا يمكن الحديث عن سيناريو الميدان الذي شهدناه في بلدان مجاورة». هذه العبارة ترددت كثيراً في الفترة التي أعقبت احتجاجات أوكرانيا في عام 2014 التي انطلقت من ميدان «أوروبا».
تبدو العبارة محقة، إذ يُجمع علماء التاريخ الروس على أن بلادهم التي جرّبت الثورات الكبرى والحروب الأهلية الدموية، لا يمكن أن تنزلق إلى تجربة مماثلة.
لكن، في مقابل «سيناريو الميدان» الذي يستبعده خبراء، والإشارة هنا إلى ثورة شاملة، تقوم على العصيان المدني الكامل الذي يصيب مؤسسات الدولة بالشلل، برزت في روسيا حال أخرى، خالفت التوقعات، من خلال تحوّل مزاج التذمّر من تردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية لدى أوساط في المجتمع إلى دافع لتنظيم فاعليات احتجاجية.
وبعد التظاهرات الكبرى بالمقاييس الروسية التي نظّمت في مارس الماضي، لا يكاد يمر يوم من دون الإعلان عن نشاط احتجاجي في إحدى المدن الروسية.
وتتخذ الفاعليات أشكالاً مختلفة، من تحرّكات فردية لافتة، كما ظهر من خلال تنظيم وقفات احتجاجية في الساحة الحمراء، أو أمام مجلس الدوما، أو حتى أمام مقر جهاز الاستخبارات الروسية، إلى نشاطات أوسع قليلاً كما حدث حين نظمت مسيرات في عشرات المدن الشهر الماضي حملت عنواناً لافتاً هو «كفاية»، وصولاً إلى تحرّكات كثيرة لأعضاء النقابات المختلفة، كان أبرزها إضراب سائقي الشاحنات، ثم محاولاتهم أكثر من مرة التحرّك من الأقاليم إلى العاصمة وإغلاق الطرق الدائرية العملاقة حولها، وهي محاولات واجهتها الأجهزة المختصة بحسم.
واللافت في التحرّكات أن الشعارات التي تحملها تبدّلت «صعوداً» من شعار مكافحة الفساد الذي كان المحرّك الأساسي للتظاهرات الواسعة في 69 مدينة في مارس، إلى مضامين جديدة حملها شعار «كفاية» الذي بات يطالب برحيل الرئيس فلاديمير بوتين، الذي وصفه المحتجون بأنه «تفوّق على الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف في طول مدة بقائه في الحكم».
لكن مكمن الخطر، كما أشار خبراء، ليس «الحشود» التي فاخرت المعارضة بأنها نجحت في تنظيمها تحت مطالب محددة للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، إنما طبيعة المشاركين، وشعاراتهم. علماً أن المعارضة كانت حشدت عشرات الآلاف في الشارع تحت شعار مكافحة الفساد، ويُعد الرقم كبيراً بالنسبة إلى روسيا التي لا يميل المزاج الشعبي فيها الى المليونيات.
ولم يسبق أن نزلت فئات الشباب إلى الشارع في تظاهرات غير مرخّصة، ما دفع إلى التنبيه لـ «ظاهرة جديدة» تحمل نوعاً من التمرّد، وتمهّد لتداعيات خطرة بسبب «كسر حاجز الخوف». والإشارة هنا إلى أن الفاعليات التي شهدتها روسيا في السنوات السابقة لم تكن تخرج عن دائرة الحصول على ترخيص مسبق لتنظيم تظاهرة، خلافاً للوضع الحالي.
ووفق الباحث في مركز دراسات المجتمع في موسكو نيكولاي ميرونوف، فإن المشاركة المتزايدة لفئات الشباب في فاعليات احتجاجية متنوّعة، ينم عن تبدّل في المزاج العام في المجتمع، بالتوازي مع تفاقم المشكلات الناجمة عن تدهور الأوضاع المعيشية.
ويذكر أن المقارنة مع الاحتجاجات الأوسع التي شهدتها روسيا عام 2012 (شارك فيها حوالى 250 ألف شخص)، فإن عنصر الشباب كان غائباً عنها، لكنه يبرز حالياً كعنصر أساس في تنظيم الاحتجاجات وتحريكها. وقال إن على روسيا أن تستعد لمرحلة جديدة تكون فئات الشباب فيها أكثر انخراطاً في الحياة السياسية.
اللافت في كلام ميرونوف أنه لمس من خلال دراسته تبدّل المزاج العام لدى فئات الشباب تحديداً، «انتقالاً في السلوك من الميل إلى معالجة المشكلات الخاصة المتعلقة بالهموم المعيشية بالدرجة الأولى، الى السعي للمشاركة في التعبير عن الرأي في إطار نظام مجتمعي. ما يعني أن المزاج الحالي لا يحمل صفة براجماتية لمعالجة مشكلة محددة، بل يبدو أقرب إلى التوجّه المثالي المتمسّك بقيم عامة ليست مرتبطة بالمصالح المباشرة».
هذا التقويم، يعكس فكرة جديدة على المجتمع الروسي المعاصر، وهو ما لفت اليه بدقة، باحث آخر هو أليكسي تشادايف عندما قال إن الشباب الروسي ينفق 95 في المئة من وقته وجهده لتلبية حاجات معيشية مباشرة، ما يحرمه من توجيه قدراته نحو التخطيط للمستقبل. واستدرك: «من الطبيعي أن يبحث هؤلاء عن بديل أكثر راحة لتحقيق تطلّعاتهم».
وخلص تشادايف إلى أنه «عندما يكون الراتب الشهري للشاب مصروفاً سلفاً لخمس سنوات مقبلة، وهو مكبل بالقيود المصرفية التي لجأ إليها لتسهيل حاجاته اليومية، سيبدأ بالبحث عن حلول أخرى، خصوصاً أنه يرى الفوارق المذهلة في المجتمع بين غالبية تلهث خلف رزقها، بينما أخبار فساد مجموعة صغيرة تملأ الدنيا».
في هذا الإطار توقّع تقرير أعدّه مركز الإصلاح السياسي والاقتصادي ومقره موسكو، انخراطاً أوسع للفئات الشابة في مجالات السياسة خلال المرحلة المقبلة. وأقر بأن «الجزء الأكبر لا يزال يدعم سياسات الرئيس فلاديمير بوتين لأنه لا يرى بديلاً، لكن سنرى دخولاً أوسع في مناقشة مشكلات البلاد السياسية والاقتصادية، ولن تكون محاولات تقليص المزاج الاعتراضي يسيرة».
في المقابل، لا ترى الأوساط الرسمية أن مشكلة انخراط الشباب في السياسة داخلية، وتنامي مزاج التذمّر، بل تربطها بتطوّر عام جاء من خارج البلاد.
وقال رئيس حزب «روسيا الموحّدة» الحاكم بوريس جريزلوف في مؤتمر ناقش قضايا الشباب أخيراً، أن هذا التطور «نتيجة مزاج عام عالمي، وشهدنا تبدّلاً واضحاً ونشاطاً أوسع لفئات الشباب في السياسات الداخلية في بلدان أوروبية وفي الولايات المتحدة، والانتخابات التي أجريت في أكثر من بلد دلّت على ذلك بوضوح».
لكن هذا التحليل، ومع اتفاق جزء كبير من النخب الروسية عليه، دفع أطرافاً في روسيا، إلى تأكيد ضرورة عدم التهاون في تحليل تداعياته المحتملة، خصوصاً أن روسيا تستعد العام المقبل لاستحقاق الانتخابات الرئاسية الذي يأتي مع معدّلات اقتصادية ومعيشية متدهورة، ما يعني أن تبدّل المزاج العام يشكل مصدر قلق جدي.
وقد تكون وزيرة التعليم أولجا فاسيليفا واحدة من أبرز الشخصيات السياسية التي دقت ناقوس الخطر، خصوصاً أن المشكلة ليست بعيدة من دائرة اهتمامها باعتبار أن المشاركين بغالبيتهم في الاحتجاجات في الشهرين الماضيين هم من تلاميذ الصفوف المدرسية العليا.
فقد دعت فاسيليفا أخيراً إلى ضرورة التعامل بجدية أكبر مع هموم الشباب ومشكلاتهم، و «علينا أن نولي اهتماماً زائداً، لا يقتصر على فئات الناشطين السياسيين من الشباب، بل يجب أن ينسحب على الفئات التي لا تدخل عادة ضمن تصنيف «القادة» أو أصحاب المبادرات، وأن نستمع أكثر إلى مشكلاتهم وأن نجد حلولاً سريعة».
قد تكون عبارات فاسيليفا موجّهة تحديداً إلى جزء من النخب الروسية، التي لا تزال مطمئنة إلى استطلاعات الرأي التي تظهر أن المزاج الاحتجاجي ليس واسعاً جداً، وأن نسب التأييد للسلطة أعلى بمرات. وهذه حقيقة برزت في الاستطلاعات التي أعقبت موجة الاحتجاجات، وأشارت إلى أن 64 في المئة من الروس كانت ستمنح أصواتها لبوتين لو أجريت انتخابات مبكرة.
وبيّنت دراسة أعدها مركز دراسات الرأي العام، أن 60 في المئة من الروس يرون أن بلادهم «تسير في الاتجاه الصحيح»، في مقابل 30 في المئة اعتبروا أن على روسيا إجراء مراجعة لسياساتها الداخلية والخارجية.
واللافت أن الدراسة ذاتها أظهرت انقساماً عميقاً بين طرفين يخشى أحدهما من «هزات كبرى مقبلة» وهؤلاء نسبتهم 45 في المئة، في مقابل 42 في المئة أبدوا ثقة باستقرار الأوضاع.
وفي الشق الاجتماعي تحديداً دلّت الدراسات على تفاوت المخاوف لدى الشارع الروسي، من 85 في المئة يرون أن المشكلة الكبرى التي تواجههم هي رفع الأسعار المتواصل، إلى 58 في المئة قلقون من تراجع المدخول، بينما قال 62 في المئة أنهم يخشون بشدة تفاقم مشكلة البطالة.
وتوازياً، يلفت خبراء إلى أن «المزاج الاحتجاجي» لا يعني بالضرورة تأييد نشاط المعارضة، ونسب تأييد بوتين تُبرز ذلك بوضوح. ويفسّر بعضهم الوضع بأن حال التذمّر قد تتسع، لكن ليس كل متذمّر من السلطة مستعداً للنزول إلى الشارع ودعم رصيد المعارضة الانتخابي. يُظهر هذا التأكيد أنه مهما أسفرت الأوضاع المعيشية المتهدورة عن اهتزاز الثقة بالسلطة، فإن الثقة بالمعارضة تبدو في كل الحالات أضعف.
في الوقت عينه، يشير خبراء إلى زاوية أخرى، لا تقل أهمية، لجهة ضرورة أن تلتفت الدولة اليها، تتمثل في تنامي مؤشرات في المجتمع للتمرّد على «بديهيات» حكمت العلاقة بين المواطن والدولة طويلاً، بينها أن «مصلحة الدولة فوق مصلحة المواطن».
هذه العلاقة تعرّضت كما يبدو إلى هزة كبرى، إذ قال 47 في المئة من الروس في استطلاع أعدّه مركز «ليفادا» المرموق أن «من حق الفرد أن يدافع عن مصالحه حتى لو تعارضت مع مصالح الدولة». بينما قال 24 في المئة فقط أنه يمكن التضحية بحقوق المواطن إذا دعت لذلك مصالح الدولة.
هذه المعادلة جديدة في المجتمع الروسي، ففي استطلاع مماثل أجري عام 2006 كانت النسب مقلوبة تماماً.