رأس غارب يتقاذفها المسؤولون ويتلقفها المسيّسون
كلمة السر في مطحنة السياسة ومهرسة الإعلام ومضبطة الاقتصاد ومجالس القيل والقال هذه الأيام هي «رأس غارب».
كل من يعرف أين تقع «رأس غارب» أو لا يعرف، وكل من يفهم في الأمطار والسيول والمخرات والسدود أو لا يفهم، وكل من يعاني أزمة سكر في بيته أو لا يعاني، وكل من هو متفائل في شأن المستقبل أو متشائم، يدلي بدلوه ويفتي بفكره ولا يضن على العالمين الافتراضي أو الواقعي أو كليهما برؤاه العلمية وقيمه الفكرية وانتماءاته السياسية وتقديراته اللوجيستية.
لوجيستيات ما حدث ويحدث في مدينة رأس غارب (ثاني أكبر مدن محافظة البحر الأحمر بعد الغردقة من حيث عدد السكان) تظل أقرب إلى الأسرار المطموسة والحقائق المغلوطة واللوغاريتمات المعكوسة.
وعكس ما توقعه بعضهم من أن يكون المحافظون ومسؤولو المحليات قد أدركوا جانباً من الأخطاء الفادحة ومظاهر الإهمال البالغة وأمارات التبلد الواضحة التي أغرقت مدينة الإسكندرية في مثل هذه الأيام قبل عام بالتمام والكمال، بدا المشهد في رأس غارب وكأنه صورة طبق الأصل مما حدث في الإسكندرية وقبله في مدن وقرى عدة تغرقها السيول بصفة شبه سنوية، فسقط 11 قتيلاً و45 جريحاً وتهدمت بيوت وغرقت سيارات وشوارع ومتاجر بمحتوياتها، ما زلزل أرجاء المدينة يوم الجمعة الماضي.
ولم يقل محتوى ما قالته الحكومة أمام مجلس النواب أول من أمس زلزلة ورجرجة عما فعلته السيول الناجمة عن الأمطار الغزيرة.
رئيس الوزراء شريف إسماعيل قال إن «تغير المناخ» وراء السيول التي ضربت عدداً من المحافظات، وأن مصر لا تعاصر مثل هذه الكوارث إلا مرة كل عقود طويلة. وعلى رغم تأكيده أن الحكومة اتخذت خطوات احتياطية عدة في محافظات كثيرة تحسباً للأمطار الغزيرة والسيول، وأنها خصصت بلايين الجنيهات لخطة إنقاذ استباقية للمدن المعرضة لمثل هذه الأحداث على مدى السنوات الثلاث المقبلة، إلا أنه اعترف بأن رأس غارب لم تكن ضمن القائمة.
وتضم قائمة المسؤولين الضالعين في كارثة رأس غارب رئيس المدينة نفسه اللواء محمد حلمي الذي دفع عن نفسه اتهامات السكان بالتقاعس وتلميحاتهم له بالتباعد ومعاناتهم معه ومجلس المدينة لعدم التفاعل بالقدر الذي يناسب الأزمة، لكنه خرج ليقول إن عدد القتلى «صغير» مقارنة بالأزمة «الكبيرة»، وأن «سيولاً كتلك كان يمكن أن يموت فيها مئات»، مضيفاً: «أنا نفسي كنت غرقان في المياه». وبرأ رئيس المدينة ساحته ملقياً بالكرة في ملعب الأرصاد الجوية التي قال إنها «لم تحذرنا من وجود سيول».
الكرة التي اندفعت في ملعب الأرصاد لم تحرز هدفاً. فكل منقب في أغوار الشبكة العنكبوتية عن كلمتي الأرصاد ورأس غارب سيجد الكلمات التالية والمنشورة قبل وقوع الكارثة وتعرض رئيس المدينة للغرق بيومين:
«يتوقع خبراء هيئة الأرصاد أن يستمر الخميس (الماضي) تكاثر السحب الممطرة على أغلب الأنحاء يصاحبها سقوط الأمطار على السواحل الشمالية والوجه البحري والقاهرة، وتكون غزيرة على سيناء وجنوب البلاد وعلى سلاسل البحر الأحمر تصل إلى حد السيول».
السيول دفعت بعض السكان إلى منع رئيس الوزراء ومعه عدد من الوزراء من استكمال تفقد آثار الكارثة، كما حركت موجات غضب عبر عنها الأهالي عبر شاشات برامج فضائية عدة توجهت إلى المدينة المنكوبة لنقل الحدث من جهة والقيام بدور همزة الوصل المرئية والمسموعة بين الحكومة وسكان المدينة من جهة أخرى.
سكان المدينة الغاضبون من إجراءات الحكومة «البطيئة»، وتحركات مجلس المدينة «الضعيفة»، وجلسات مجلس النواب «الرديئة» لم يجدوا سوى تدخلات من القوات المسلحة صاحبة القدرة الوحيدة على الدفع بمعدات ثقيلة لإعادة الحياة إلى طبيعتها.
وبينما الحياة تجاهد من أجل العودة إلى طبيعتها، يتناحر الجميع ويتبادل أطراف إلقاء الاتهامات والمعايرات في ملاعب المسؤولين والنواب والمنتفعين وأصحاب الظهور الموسمي. الخناقة الرهيبة التي صدح بها أثير التلفزيون حيث اتهامات متبادلة بالتقصير بين رئيس المدينة ونائبها أحمد الضو جاءت على سبيل المثال لا الحصر. اتهم الأخير الأول بالتقصير وطالبه بالاستقالة، وهو ما رد عليه الأول باتهام الأخير بأنه يعيش في الغردقة ولم يكلف خاطره بالقدوم إلى المدينة ولو حتى لتقديم واجب العزاء في الضحايا. ودفع ذلك النائب إلى مطالبة رئيس المدينة بتسكين السكان المشردين في شقق المحافظة، وهو ما رفضه رئيس المدينة لأنها شقق وزارة الإسكان، منذراً إياه بقوله: «أنا المسؤول هنا مش سيادتك»، ليأتي الرد سريعاً: «لا. أنا المسؤول. أنا راجل برلماني».
وبين «الرجل البرلماني» و «الرجل الحكومي» رجال آخرون ونساء أخضعوا كارثة رأس غارب لعملية التسييس المقيتة. فمنهم من ترحم على أيام الرئيس السابق حسني مبارك التي شهدت كوارث بيئية وأزمات شبهية ولكن من دون تلاسنات قبيحة وملامات سخيفة. ومنهم من حمل زمن مبارك مغبة ما حدث على اعتباره المسؤول الأول عن تردي البنية التحتية وتدهور الحال المعيشية للملايين. وبزغ فريق ثالث لا يخفي سعادته أو يموه فرحته أو حتى يجمل شماتته في ما يجري للشعب الذي أطاح «من جاء ليصحح وحكم ليطبق شرع الله»، في إشارة إلى الرئيس السابق محمد مرسي. ومجموعة رابعة لم تر في الكارثة سوى عظمة الجيش المصري وبرهنة الأزمة على أن «الجندي المصري وحده القادر على النهضة بالبلاد وإنقاذ العباد». وخامسة تلقي اللوم على هذا وذاك معتبرة أن «التفريط في الثورة وقفزة الإخوان على السلطة وانقلاب الجيش على الحكم وتسليم الشعب رقبته لمن لا ينتمون إلى الثورة عوامل أدت إلى تعطل التنمية».
وبين كل هؤلاء يقبع رجال ونساء من المواطنين العاديين يدلون بدلوهم بدورهم، فتميل الدفة حيناً تجاه البنية التحتية المتحللة منذ عقود، وحيناً آخر صوب الحذر الذي لا ينجي من القدر، وتارة معتبرة السيول ظاهرة من ظواهر الطبيعة لا يمكن وقفها أو التنبؤ بها، وأخرى متحجرة لتواتر المشاكل وتتابع الأزمات، ومجموعة خامسة لا ترى أملاً في البلاد لو أصاب الجيش مكروهاً، وسادسة تعطي المبرر للحكومة من منطلق أنها «لا تقدر على حل أزمة السكر. فهل تحل كارثة السيول؟». أما السكان في رأس غارب، فيحررون المحاضر بالخسائر، وينتظرون تقاضي التعويضات، ويتلقون العزاء في من مات، وينتظرون استكمال علاج من أصيب.
نقلا عن الحياة