المقبرة والظلم والشتاء

كتب: عزت غنيم

فى: ساحة الحرية

10:53 03 يناير 2017

أفَقْتُ في هذه السيارة ذات الرائحة الغريبة واللون الكئيب، ولاتزال العصبة على عينيي، مددت يدي ورفعت العصبة ووقفت لأنظر من هذا الشباك الصغير الضيق في أعلى جانب هذا الصندوق الذي يتحرك..

الواضح أنها سيارة ترحيلات بدأتُ في النظر منه فرأيت رقما مكتوبا على لوحة أعلى باب كبير 992 طره.. وبدأت السيارة تدور لتدخل من الباب الذي بدأ ينفتح، وكأنه باب من أبواب الجحيم.

وعلى الباب أشار عسكري للسيارة بالتوقف وسأل قائدها ما معك فردّ الضابط الجالس بجوار العسكري الذي يقود: مأمورية من لاظوغلي, وأعطى قائد البوابة أوراقا فوقّع عليها وسمح له بالدخول.

دلفت السيارة إلى داخل الباب الحديدي الذي يعتبر جزءًا من سور حجري ضخم، وبمجرد ما دخلت السيارة سمعنا أزيز الباب وهو يغلق وكأنّه باب قبر يسدّ على من فيه من بشر وحجر.

 كل هذا وانا أظن أني في حلم سأفيق منه قريبًا، بدأت أسترجع أحداث هذا الحلم الذي بدأ من لحظة أن اقتحم مجموعة من الملثمين منزلي، فبدأت أراجع الأحداث في ذهني، فقد اقتحموا بيتي وروّعوا طفلي ولطموا زوجتي التي ظلت تصرخ وهي تتشبث بي وترجوهم أن يتركوني، فألقوا بي على الأرض وبدأوا في الضرب بلا سبب فلم أبدي أي مقاومة لهم غير أني سألتهم فين أمر النيابة، فجذبني أحدهم والقاني أرضا وبدأ يسحبني من قدمي على سلالم البيت حتى وصلت إلى مدخل البيت وقذفني إلى أحد السيارات المتوقفة، وتمّ نقلي إلى مكان ما الذي عرفت فيه أنني لم أذق طعمًا للألم  في حياتي إلا الآن.

ومن هناك استيقظت من غفوتي على صوت ينادي مجدي السويفي انزل يا ابن ال....

وبمجرد ما فتح باب السيارة ووضعت أول قدم خارجها وجدت سيلاً من الضرب بالأيدي والأحزمة والخرازانات والعصي من سيل من الشتمّ والسب بلا سبب بكل الألفاظ القذرة التي سمعتها والتي لم أسمعها في حياتي.

لم أفهم ما الداعي من كل هذا، فلم تكن بيني وبين أيّ من هؤلاء أي خصومة أو حتى سابق معرفة. كل ما استطعت فعله هو أن أحاول أن أتقي الضربات بيدي التي لم تسطع أن تمنع شيء فالضربات كانت تطول جسمي كله.

وبعد هذه السلسلة الطويلة التي كنت أظن أنه لا نهاية لها وصلت إلى باب حديدي صغير في جنب أحد الحوائط المصمتة لهذا المبني الغريب، قادني أحدهم إلى أسفل عبر درجاته وهو يجذبني جذبًا شديدًا لأنزل على درجات لم أعلم عددها والتي لا أعلم إلى أين قد توصلني، ولكن رائحة المكان العفنة كانت تخبرني أنني في مقبرة لا حياة فيها، ولكن كل ما ورد في ذهني وقتها أنه لا بشر هنا غيري، أنا وفقط، وهؤلاء الجنود البؤساء الذين لا يعرفوني ولا أعرفهم ويكرهوني لسبب لا أعرفه حتى الآن ..

 

نزلت على هذه الدرجات حتى وصلت إلى ممر على مدخله باب حديدي ذي قضبان ولا توجد به إلا لمبة واحدة ضوؤها خافت أقرب للعتمة منها إلى الضوء، تم فتحه واستلمني عسكري آخر أشد غلظة من الأول، جذبني جذبًا شديدًا كاد ذراعي أن ينخلع مني, ومشي بي في الممر إلى أن وقف أمام باب حديدي لا يوجد به أي فتحة سوى فتحة من الخارج فقط، فتح العسكري هذا الباب وسمعت صوت صريره الذي يصمّ الأذن، وكأنه لم يفتح منذ بدء الخليقة..

ونظرت بداخل الباب فلم أر شئيًا، ظلم مطبق، وأمسكني من ذراعي وقذفني هذا العسكري إلى داخل الباب، توقعت أن أقع على الأرض داخل الزنزانة فقد حسبت أنها زنزانة وليس قبر لي، ولكني فوجئت بأني قد اصطدمت بحائط الزنزانة من شدة الصدمة فالمسافة بين الباب الحديدي والحائط متر واحد فقط، فكأني سقطت من علو دورين وشعرت بألم شديد في ذراعي الأيسر وضلوعي ووقعت على الأرض ولم أدرِ ما حولي، وكأنَّ الدنيا تلفّ من حولي حتى غبت عن الوعي. أفقت بعد فترة لا أعلم كم هي ولا أعلم أنا في الليل أم النهار ولا يوجد أي منفذ للضوء فلا شباك ولا ساعة ولا ثقب باب أنظر منه..

بدأت أستجمع قواي وبدأت بيدي اليمني أتحسس ضلوعي، والحمد لله لم أجد به كسورا لعلها كدمات من أثر الصدمة، وأمسكت بيدي اليمني ذراعي الأيسر أتحسسه أيضًا، فلم أستطع من شدة الألم وأصبحت أعي أنه مكسور، بدأت أهدئ من روع نفسي وأقول يا رب يا رب يا رب .

بدأت أمزق قميصي المهترئ أصلاً لأربط به ذراعي واستطعت أخيرًا بعد معاناة شديدة أن أربطه وأعلقه في رقبتي. بدأت أتحسس ما حولي بيدي، نظرًا للظلام الدامس فلا ضوء ولا هواء ولا أي شيء، فوجدت أنّ كل مساحة الزنزانة هي متر واحد في متر فقط ووجدت دلوا في أحد الأركان، لم أفهم لمَ ولكني ظننت أنه لقضاء الحاجة، وفعلاً ونظرًا لأني منذ بضعة أيام لم أتبول حاولت أن اقف على قدماي فاستندت على الحائط الأسود الذي لا أراه وأمسكت بهذا الدلو وتبولت فيه ووضعها ثم سقطت أرضا. استندت بظهري على الحائط ومددت قدماي للأمام واستندت بيدي اليمني لاعتدل في جلستي، وأغمضت عيناي لأنام قليلاً لم أدرك كم من الوقت مرَّ علي وأنا في هذه الحالة، فبدأت أعيد في ذاكرتي ما حدث معي وما السبب في إحضاري هنا, فهيئ إلي أنني أحلم أو لعلي ميت وأنا في القبر أعذب بما جنت يدي فلعلي ظلمت أحدا أو ارتكبت إثمًا عظيمًا .

ولكن تم فتح الباب وفوجئت بعسكري يقف أمامي وضرب قدمي بقدمه بلا سبب وفي يده دلو لا أعلم ما به غرف منه غرفة بطبق معه وألقي بما غرفه على الأرض وأغلق الباب دون أي كلمة. بدأت أزحف متحسسًا الأرض لأري ما الذي ألقاه فلم أستطع رأيته فشممته بأنفي فلم أستطع فقد كانت رائحة فظيعة جدًا، أقرب لرائحة المجاري، فتأففت منه أولا, ونظرًا لأني لم آكل منذ بضعة أيام عدت إليه مرة أخري وبدأت أغرف منه بيدي وأضعه في فمي ولا أدري ما هو كل ما أشعر به طعم غريب ورائحة فظيعة...

انتهيت واستلقيت مرة أخرى بذراعي المكسور وجسمي الممزق من التعذيب والضرب وأنا لا أفهم ما يدور حولي، ظننت أنه قد مرّ يومان أو ثلاثة وأنا بهذه الحالة، فاستندت بيدي اليمني على الحائط حتى وصلت إلى باب الزنزانة وبدأت أخبط بكل قوتي عليه، لعل أحدا يرد، فقد مرّت فترة كبيرة منذ كلمت إنسانا وأنا هنا في هذه المقبرة مدفون وحيدًا بلا سبب ولا ذنب، لم أجد ردًّا ولم أسمع أي صوت وكأني أنادي في فراغ لا نهاية له ولا مجيب .

بقيت على هذه الحال لا أعرف وقتًا ولا ساعة ولا الليل من النهار وكل فترة كبيرة يأتي هذا العسكري الغليظ ليلقي لي هذا الشيء على الأرض لأزحف إليه لآكله، حاولت أن أكلمه فركلني بقدمه وأغلق الباب بقوة ومشى. فكرت أن أصلي فلم أعرف وقتًا ولم أجد ماءً ولم أعرف أين القبلة، ولم أقوى حتى على التيمم, فبدأت أحرك عيناي بحركات الصلاة. لم أستطع أن أعرف ما يحدث, ولم أجد من أكلمه فقادني تفكيري للجنون وفكرت في الانتحار، فاستغفرت وعدت للصلاة. وفي وقت لم أستطع فيه الصبر على الألم والصبر على الوحدة والصبر على الظلم فكنت أردد ليه كده يارب,,,,, ليه كده يارب ,,,,, ليه كده يا رب وابكي وابكي .

وكأن هناك صوت يأتي من أعماقي فاصبروا,,,, وأنا أبكي وأقول يارب

مرت الأيام التي لا أعرف عددها وأنا أكلم نفسي كالمجنون ,,, أليس لهذا البلاء من آخر كان البكاء هو أنيسي الوحيد فتذكرت زوجتي وابني الوحيد كيف حالهم الآن هل يعلمون مكاني، ماذا حدث لهم كيف يعيشون كيف سيأكلون ويشربون كيف ستسد زوجتي إيجار الشقة والديون المتراكمة والأقساط الشهرية، أسئلة لا نهاية لها تمر على خاطري وأنا في هذه المقبرة..

 مرت الأيام والتي لا أعلم عددها وفي أحد الأيام فوجئت بفتح باب الزنزانة وكأني أحب هذا الصوت الذي ألفته لأنه الصوت الوحيد الذي أسمعه وكأنه سيمفونية أو معزوفة لموزارت أو بيتهوفن, وصوت يقول لي تعالي فرحت بهذا الصوت فرحة الصغير بلعبة أحضرتها له أمه, فلأول مرة منذ فتر أسمع صوت إنسان فبدأت أضحك وأضحك بهستيريا وبشكل مستمر وخرجت معهم وسألت العسكري الذي يقودوني ويدي مكبلة,,,, فيه إيه فقال لي عندك زيارة قادني إلى غرفة الزيارة وهي عبارة عن غرفة لا تزيد عن المتر اجلسني على كرسي وأغلق الباب خلفه ومشى فوجدت أمامي لوحا زجاجيا. ولحظات ورأيت زوجتي وابني على الجانب الآخر من لوح الزجاج مددت يدي محاولاً لمسهم فلم أستطع وأتكلم فلم يسمعوا فأشارت لي  زوجتي وهي تبكي أيضا بكاءً هيستريًا على سماعة التليفون وأمسكت هي بالسماعة من الطرف الآخر. فقلت لها ببكاء كطفل وجد أمه أنا فين أنا فين، فقالت ده سجن العقرب فصرخت اه اه اه صمت وسكوت وبكاء ورعب...

 

ملحوظة:

أي تشابه بين هذه القصة وبين الحقيقة لست مسئولا عنه، فما ذكرت محض خيال مني لا علاقة له بالواقع الأسوأ...

 

( عزت غنيم المحامي والباحث الحقوقي)

اعلان