على هامش ذكرى ثورة اللوتس
الزمان: 10\6\2010
ختاما برائحة المسك .. كنت أنا ورفاقى نختتم عاما دراسياً هو تتمة دراستنا الجامعية .. مضيت وإياهم 4 أعوام فى دراسة الأدب الإنجليزي .. اكتست وجوهنا بالفرح وغُمرت قلوبنا بالأمل ونحن على مشارف ختام دراستنا الجامعية .. شارف عام 2010 على الانقضاء وقد حملت وزملائي شهادة الليسانس فى الادب الإنجليزي ومعه حملنا أيضا أحلاما وتطلعات لوهلة من الزمن بدت برّاقة وسرعان ما خالجنى الشك إن كان مسلكا يمكن أن أخطوه حتى تصبح احلامى حقيقة تعيش وتثمر.
لطالما تجاذبت ورفاقى أطراف الحديث وتبادلنا الضحكات وتقاسمنا لحظات من المرح فى أروقة الحرم الجامعى، أكاد أقسم أن السعادة ارتسمت فى أرواحنا قبل العيون وأن النهار أشرق فى نفوسنا أولا قبل أن يزيح ستائر الظلام التى حجبت الضوء عن بلادنا بضع سنين .
ربما أن السير فى أروقة العمر ليس سهلا خصوصا وإن كنت من ساكنى أغلى بلاد الارض قاطبة ً بيد أن شموع الإيمان أهدتنا إلى أن هناك أمرا جلل على وشك أن يحدث.
لم يكن خافيا عن إدراكنا ولا غائبا عن ناظرينا حجم المعاناة والمكابدة التى تحمّلها أبناء الشعب من الفقراء فالمشتغل بالشأن المصري والمتابع لما يدور فى أروقة الكواليس أو حتى ما يدور على الملأ يستطيع أن يدرك كيف أضحت الظروف المعيشية الحياتية للمصريين بائسة للحد الذي ينذر باشتعال فتيل من الغضب .. لم تكن مشكلة الإنسان المصري فى يوم من الايام تنحصر فى الخبز فأمتنا كتبت فصولا من الجلد والصبر على المعاناة حُفر لها مكانا خالدا فى التاريخ الإنسانى .
عقيدتنا تقبل الصبر على شظف العيش ولكنها تأبى وخز الكرامة ولعل هذا ما يفسر التفاف شعب بأكمله حول أسطورة الوطنية والنضال الزعيم الخالد جمال عبد الناصر حتى أننا فى أحلك الظروف وأصعبها لم نشك ضيق الحال لأن المشروع الوطني المتمثل فى بناء الدولة المصرية الحديثة بمشروعات عملاقة توفر احتياجاتنا وكذا بناء الإنسان المصري المتسلّح بالعلم والفن والحضارة وبعقيدة البناء وقبل كل شيء الحامل للبندقية للزود عن الوطن إذا ما كشّر العدو عن أنيابه .
كنا نضع هذه الحقائق نصب أعيننا .. كان الوطن يملأ ناظرينا واختفت الأنا وأضحى أى سجال يدور فإنه يدور حول الجمهورية الشابة الفتيّة العصية على الانكسار .. على مصر التى لم تُفلح يد الزمن أن ترسم على وجهها التجاعيد ولم تُهيأ له فرصة وضع بصمته على جبينها.
فقط من نجح فى ذلك كان أخطبوط الفساد الذى نال ما ناله منها ومن عافيتها حتى أضحت ثقيلة الخطى .. ورغم ذلك لازالت تمشي كملكة.
الفساد ملف اسود تحكى اوراقه كيف أن هناك مسوخا بشرية لا يأبهون لأقوات الشعوب ولا يتحرّجون من تقاسم الرزق مع الفقراء أو حتى يستولوا عليه بلا أدنى خجل أو حمرة حياء .. لا يخالج وجدانهم ضيق ولا يجدون فى صدروهم حرجا من الإستيلاء على مقدرات بلادهم ومصادرة أحلام شبابها .. يدفعون مليارات من الرشاوى لتسهيل الاستيلاء على أركان الدولة وأراضيها التى أوسعها الله لنا تاركين السواد الأعظم من شعبنا على الهامش وعلى أطراف البلاد وكأننا هنا ضيوف وهم أصحاب الأرض.
أتحدث عن سنوات عجاف عاشها جيلُ يكبرنى بأعوام وأدركها جيلى على استحياء .. استطاع فيها الفقر المدقع والمرض نهش أجساد المصريين وخيمّت الجهالة على العقول فأضحت مصر تعيش ردّة ثقافية وسياسية واقتصادية وحتى أصبح 45 مليون مصري تحت خط الفقر و12 مليون يعيشون بلا مأوى وأصبحت مصر سوقا لتجارة الأعضاء البشرية.
لم تكن أزمة شعبي مع النظام الأسبق هى أزمة خبز قدر ما كانت أزمة كرامة، طوابير الخبز وطوابير امام المستشفيات والمصالح الحكومية تخبرنا ماذا تعنى أزمة الكرامة .. الفريق الأكبر من هؤلاءالمطحونين كانوا يخرجون فى معركة مع كل ما يحيط بهم للفوز بلقمة عيش يهنئون بها هم وأولادهم بدءا من وسائل نقل متهالكة وطرق مكدّسة وأجواء عكّر صفوها سحب قش الأرز السوداء.
وكذا عكّر نقاؤها موت الضمير وغياب العدالة ورائحة الفساد التى طردت كل نسمة هواء عليلة حتى ما عاد هناك هواءا نقيا يمكن استنشاقه. مرورا بأزمات حياتية طاحنة أتت على الأخضر واليابس فى صحة المصريين.
ناهيك عن تدنى مستوى الخدمات المقدمة الصحية والتعليمية للمواطن وتدنّى الاجور وارتفاع الأسعار وشعور يصل لمرتبة اليقين اننا أصبحنا مُنتهَكي الكرامة والإنسانية كى نظفر بلقمة عيش لنا ولأولادنا وشباب يشعرون بأننا هنا فى أرض الأحلام الضائعة أو الفرص الضائعة أو الفردوس المفقود !!! ونظام سياسي فى خضم الإعصار يُرتّب لتوريث تركته لشاب لا أشك انه حظى بتعليم جيد لكنه أبدا لم يكن ليتسلّم مقاليد الأمور فى بلد بحجم مصر .
ولا أعلم أى تركة تلك التى كان سيتسلّمها نجل " مبارك " فوطنُ مأسوف عليه يترّنح تحت وطأة الفساد السياسي والرشاوى والمحسوبية والجهل وانهيار الأخلاق وضياع الهوية وتفشي الجريمة لهو أشبه بالبركان الثائر أضف الى ذلك حكاما يُصعّرون خدّهم لإنذارات يوجهها الشعب بين الفينة والأخرى فيملأون الدنيا صراخا ولكن هل كان هناك مجيب ؟!
ثورة الياسمين ..
لحظة لم يحسب لها حساب وهكذا جل المقادير .. لحظة أن انقلب السحر على الساحر ويبدو أن محمد البوعزيزي الشاب الذي يضاهي عمره عمر زهور تونس الخضراء قد قرر أن يقتص لكرامته وكرامة ابناء جيله بأكمله فأطلق لثورته العنان ولم تفلح محاولاته فى كبح جماح غضبه.
لا بد أنها كانت لحظة خانقة .. لحظة الشعور بالجور والبهتان وضياع الحقوق .. لم يستوعب البوعزيزي ان السلطات فى سيدي بوزيد صادرت عربته التى يتكسب منها قوت يومه وإنما ما فطن إليه البوعزيزي هو أنهم صادروا إنسانيته وحقه فى الحياة.
أحكموا إغلاق كل أبواب الصراخ والاحتجاج فى وجهه ولم يدركوا أنهم يفتحون ابواب الجحيم على أنفسهم وابوابا أخرى تهب منها نسائم الحرية وتشرق منها شمس العدل مجددا.
هل فكر البوعزيزي ولو هنيهة لحظة أن اضرم النار فى جسده أنه قد اشعل فتيل جذوة الغضب فى الوطن العربي حتى أن ناره أحرقت نظامين عربيين فى ظرف أيام؟
ولم تكن مصر ببعيدة عن هذا المشهد المدوّى رغم مسارعة البعض للتأكيد أن الشعب المصري هو الملهم وعلى خصوصية الحالة المصرية واختلاف الظروف والملابسات.
بيد أن جموع المصريين كان لها رأي آخر وهو ما لم تفلح القيادة السياسية فى إدراكه وقتها رغم سنوات تشهد على غليان المرجل.
كان غليانا حقيقيا بكل معنى الكلمة .. قانون اسمه قانون الطواريء أضحى كابوسا يجثم على صدور المواطنين الأبرياء يتيح احتجاز الاشخاص دون وجه حق وممارسات قمعية لجهاز شرطي ترتكز عقيدته آنذاك على حماية اركان النظام وليس أركان الدولة المصرية، مراكز احتجاز خفية وخصوصيات تنتهك تحت سمع وبصر الدولة ونظام عجز عن التخطيط لإدارة وللإستفادة من الطاقات الهائلة من ثروة بشرية قادرة على إحالة المستحيل واقعا ناهيك عن وحش البطالة وظهور النظام الأوليجاركى أو الرأسمالية الاحتكارية حيث تسيطر قلة على راس المال مستولين بذلك على حقوق الفقراء والكادحين ومقدرات الوطن.
فى كواليس يناير المجيدة يمكنك أن ترى التزييف الفاجر لإرادة شعب نسفت على مذبح التزوير فى انتخابات صورية جرى تزوير نتائجها لتصبح البلاد ذات طيف سياسي واحد وكأنه موجود رغم أنه لا وجود له .. كانت الثورة البيضاء أشبه بالنار تحت الرماد .. نسمة هواء كانت كافية لتأجيجها وإحيائها من جديد.
وشاء القدر أن يهب نسيم الثورة قادما من تونس ، أتبعها في مصر ثورة بيضاء أطاحت بنظام دون اللجوء للعنف ودون حمل سلاح مجبرة إيّاه على الإذعان والتخلى عن عرش مصر وعن أحلام لا يستوعبها عقل ولا وطن أثقلث كاهله همومُ تنوء بها العصبة أولى القوة.
6 أعوام مضت على ذكرى الثورة المجيدة، 6 أعوام هى عمري وعمر كل من آمن بها ولم أفكر خلالها أن أكتب أطروحات عنها .. رأيتها أعظم وأكبر من قدرتى .. أيام بيضاء تزينت بجمال ثورة بيضاء حريّ ببلادى أن تفسح لها مكانا لا يضاهيه مكان فى سجل التاريخ المصري والعربي الحديث.
عاود الأمل يطرق بابي وباب رفاقى من جديد وأن ثمة نصيب أعظم لم ندركه بعد .. أشعلت الثورة فتيل الأمل والعمل الجاد والرغبة أن تعبر بلادى كبوتها ورغم أن السنوات الست كانت من أصعب وأقسى أعوام عمرنا كشعب وجاءت ممتلئة بالأحداث الجسام وبالعواصف السياسية والاقتصادية ولا زلنا نشهد جانبا منها حتى الآن إلا أن الأمل ما زال يسكن جنبات صدورنا فى العبور من المضيق والخروج إلى أوسع الطرق.
لازال هناك الكثير ليحكى عن ثورة اللوتس وعن الشهداء وقد اخترت لكم أبياتا من اروع ما كتب فاروق جويدة مخاطبا مصر والشهداء علنّا بذلك نسترجع تضحيات الشهداء ونتلمس خطاهم ونستعيد عبق الذكرى:
يا أيها القناص
ثمن الرصاصة يشتري لنا خبزا
وشبابنا قد سال نهرا من دماء بيننا
لم لا يكون سياج أمن حولنا
فأنا شهيدك رغم أنى عاشق ودمى حرام واسألى سجانى
قد جئت يا أمى لأطلب ثوب عرسي من يديك بفرحتى
أعطيتنى أكفانى
المجد كل المجد لشهداء ثورة يناير المجيدة