الثورة الجاكسونية.. الشعبوية الأمريكية والنظام الليبرالي
لأول مرة منذ 70 عاما، ينتخب الشعب الأمريكي رئيسا يستخف بالسياسات والأفكار والمؤسسات التي تمثل جوهر السياسة الخارجية اﻷمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.
وليس هناك من يعرف الشكل الذي ستكون عليه السياسة الخارجية لإدارة ترامب، أو أولويات الرئيس الجديد وتفضيلاته في مواجهة أحداث وأزمات المستقبل، لكن السياسة الخارجية للولايات المتحدة لم تشهد، منذ إدارة فرانكلين روزفلت – جدلا بهذه الحدة.
فمنذ الحرب العالمية الثانية، تشكلت الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة على أساس مدرستين فكريتين، ركزتا معا على تحقيق نظام دولي مستقر تكون الولايات المتحدة مركزه: المدرسة الهاملتونية (نسبة إلى ألكسندر هاملتون 1757 - 1804 وزير الاقتصاد في عهد أول رئيس أميركي جورج واشنطن1797، وأحد واضعي الدستور الأمريكي ومنظم البنك الوطني الأمريكي. الذي يرى أن ازدهار أمريكا وقوتها وأمنها ترتبط بقدرة الشركات والمؤسسات الاقتصادية الأمريكية على النمو. فكان الرهان عنده اقتصاديا).
والمدرسة الولسونية (نسبة إلى الرئيس تومـاس ولسون 1856 - 1924 ، الذي أدخل أمريكا الحرب العالمية الأولى وأنشأ عصبة الأمم. وتتبنى هذه المدرسة نشر القيم الأمريكية في العالم، خصوصاً الديموقراطية، باعتبارها رسالة الولايات المتحدة، وهي في الوقت نفسه الضمانة الأساسية لأمنها وسلامتها.
فكان الهاميلتونيون يعتقدون أن مصلحة الولايات المتحدة تتمثل في أن تحل محل المملكة المتحدة باسم "بوصلة العالم"، على حد تعبير إدوارد هاوس، مستشار الرئيس وودرو ويلسون أثناء الحرب العالمية الأولى، وتضع النظام المالي والأمني السليم من أجل إحياء الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، بهدف احتواء الاتحاد السوفيتي ودفع الولايات المتحدة قدما.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ضاعف الهاميلتونيون الضغط لتعزيز نظام ليبرالي عالمي، من الناحية الاقتصادية في المقام الأول.
بينما يعتقد الولسونيون، أن إنشاء النظام الليبرالي العالمي يمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة، لكنه يعتمد على القيم بدلا من الاقتصاد، واعتبرت الويلسونية الأنظمة الفاسدة والمستبدة في الخارج السبب الرئيسي للصراع والعنف في العالم، فسعى الويلسونيون إلى تحقيق السلام من خلال تعزيز حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي، وسيادة القانون.
وفي مراحل متأخرة من الحرب الباردة، ركزت المؤسساتية الليبرالية - أحد فروع هذا المعسكر ـ على تعزيز المؤسسات الدولية وزيادة التكامل العالمي، في حين رأى فرع آخر ـ المحافظون الجدد- أن جهود واشنطن، بشكل أحادي، أو بالتعاون الطوعي مع شركاء مماثلين فكريا، آفضل سبل الدفع بأجندة ليبرالية.
وكانت الخلافات وتوابعها بين هاتين المدرستين حادة، ولكنها تدور ضمن الالتزام بمشروع مشترك للنظام العالمي، ومع تعرض هذا المشروع لضغوط متزايدة في العقود الأخيرة، تراجعت قبضة دعاة العولمة على تفكير السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
وبدأت تتعالى أصوات أكثر نزوعا للقومية، بدلا من العالمية، وظهر استياء الرأي العام بشكل متزايد إزاء فشل مشروع بناء نظام عالمي يواجه ما تنادي به مؤسسة السياسة الخارجية، وعادت المدرستان الجيفرسونية والجاكسونية، اللتان برزتا قبل الحرب العالمية الثانية، ولم تكونا مفضلتين خلال ذروة النظام الليبرالي، للظهور بقوة.
وتنتسب الجيفرسونية الى توماس جفرسون ( رئيس أمريكا في بداية القرن التاسع عشر) وتعطي الأولوية للديموقراطية الأمريكية وضرورة المحافظة عليها داخل الولايات المتحدة نفسها في وسط عالم خارجي معاد، لا ينبغي الذهاب اليه ولا العمل على إصلاحه وإنما ابقائه بعيداً عن أمريكا (وينتمي مبدأ مونرو الانعزالي إلى هذا التوجه).
بينما تنتسب المدرسة الجاكسونية إلى الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون الذي انتخب رئيساً بين عامي 1829 - 1837. وتحمل هذه المدرسة ثقافة شعبوية آتية من الجنوب الأمريكي حيث الشرف الشخصي والكرامة العسكرية يشكلان القيم الأولى في الحياة. ولا تسعى هذه المدرسة الى خوض الحروب. ولكنها اذا التزمت حرباً حيث المصالح الأمريكية في الميزان فإنما لتربحها، وشعارها قول ماك آرثر الشهير: "البديل الوحيد للنصر هو النصر".
ويرى الجيفرسونيون، ومنهم من يسمون اليوم بالواقعيين، أن الحد من المكانة العالمية للولايات المتحدة من شأنه أن يقلل من التكاليف والمخاطر أمام السياسة الخارجية، وهم يسعون إلى تحديد المصالح الضيقة للولايات المتحدة، وتحقيقها عبر أكثر السبل أمانا وأقلها تكلفة.
ومد دعاة الليبرالية هذا الخط على استقامته، ليجدوا حلفاء بين العديد من اليساريين الذين يعارضون التدخل، ويريدون خفض الإنفاق العسكري، ويفضلون تركيز جهود الحكومة والموارد في الداخل.
في مقال نشرته مجلة فورين أفيرز، يرى والتر راسل ميد أن بعض منافسي دونالد تدامب في انتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية اعتقدوا أن بإمكانهم الاستفادة من المد المتصاعد في التفكير الجيفرسوني، لكن دونالد ترامب لمس ما فشل منافسوه السياسيون في فهمه: أن القوة المتصاعدة حقا في السياسة الأمريكية لم تكن الجيفرسونية، وإنما آفكار جاكسون القومية الشعبوية.
سياسة الهوية
ويتبنى ترامب الشعبوية الأمريكية الشعوبية المتميزة التي تمتد جذورها الثقافية والفكرية إلى أول رئيس شعبوي في البلاد، أندرو جاكسون، وبالنسبة للجاكسونيين، الذين شكلوا نواة حماسية لدعم ترامب عاطفيا ـ
لا تعتبر الولايات المتحدة ليست كيانا سياسيا تم إنشاؤه وتحديده، عبر مجموعة من المقترحات الفكرية المتجذرة في التنوير وموجهة نحو تحقيق رسالة العالمية؛ وإنما هي الدولة القومية للشعب الأمريكي، ويتركز اهتمامها الرئيس في الداخل، كما يرون أن التميز الأمريكي ليس بسبب جاذبية الأفكار الأمريكية عالميا، أو حتى بسبب مهمة أمريكا الفريدة لتغيير العالم، ولكن يكمن في التزام البلد الوحيد بالمساواة وكرامة المواطنين الأمريكيين. ويؤمن الجاكسونيون بدور حكومة الولايات المتحدة في تحقيق الأمن المادي والرفاه الاقتصادي للشعب الأمريكي في الداخل بأقل قدر ممكن من التدخل في الحرية الفردية التي تجعل البلاد فريدة من نوعها.
ولا تتقاطع الشعبوية الجاكسونية مع السياسة الخارجية وحدها، بل انها تتقاطع مع السياسة بشكل عام. وقد احتشد حولها خليط من القوى والاتجاهات خلال هذه الدورة الانتخابية، وكان تركيز معظم هؤلاء على الجانب المحلي.
وسعيا لتفسير تصاعد الجاكسونية، أشار المعلقون إلى عوامل مثل ركود الأجور، وعدم وجود وظائف جيدة للعمال غير المهرة، وتفريغ الحياة المدنية، وارتفاع نسبة تعاطي المخدرات ـ وكلها عوامل يربطها كثيرون بالحياة في المدن الداخلية، المنتشرة في معظم أنحاء البلاد.
لكن هذه هي وجهة نظر جزئية وغير مكتملة، فقد لعبت الهوية والثقافة ـ تاريخيا ـ دورا رئيسيا في السياسة الأمريكية، ولم تكن أحوال 2016 استثناء. فقد شعرت الجاكسونية الأمريكية أنها تحت الحصار، مع تعرض قيمها للهجوم ومستقبلها للتهديد، وعلى الرغم من عيوب ترامب، بدا في اعتقاد الكثير من الجاكسونيين المرشح الوحيد المستعد للكفاح من أجل بقائها.
وهناك أحداث معينة تحتشد فيها قوى الجاكسونية للمشاركة السياسية، من بينها الحرب؛ فعند أي هجوم معاد تهب الجاكسونية للدفاع عن البلاد، وبالمثل، يعتبر أقوى دافع للمشاركة في السياسة الداخلية الاعتقاد بأن الجاكسونيين يتعرضون للهجوم من قبل الأعداء في الداخل، مثل النخبة أو المهاجرين من خلفيات مختلفة.
ويتخوف الجاكسونيون من آن يستولي على حكم الولايات المتحدة قوى حاقدة عازمة على تحويل الطابع الأساسي للولايات المتحدة، لكنهم ليسوا مهووسين بالفساد، معتبرين ذلك جزءا متأصلا في السياسة، لكنهم يهتمون اهتماما عميقا بما يعتبرونه انحرافا عندما يحاول الساسة استخدام الحكومة لقمع الشعب بدلا من حمايته، وهو ما يشعر الجاكسونيون أنه كان يحدث في السنوات الأخيرة، مع تعاون قوى مؤثرة في النخبة الأمريكية ـ بما في ذلك المؤسسات السياسية للحزبين الرئيسيين ـ ضدهم.
بل إن العديد من الجاكسونيين بدأوا يتشككون في وطنية المؤسسة الأمريكية، باعتبار أن "الوطنية" ولاء غريزي للرفاه وقيم الجاكسونية الأمريكية؛ التي لم تكن خاطئة كليا، من منظورهم.
وبينما يمتلك العديد من الأمريكيين تعاطفا مع العالم، ويعتبرون أن العمل من أجل تحسين الإنسانية بشكل عام، ضرورة أخلاقية رئيسية. بينما يرى الجاكسونيون مجتمعهم القيمي أقرب إلى الوطن، و المواطنين الذين يشتركون في رباط وطني مشترك. فإذا كان آصحاب النزوع العالميين يرون الجاكسونية متخلفة وشوفينية، فإن الجاكسونيين يرون النخبة ذات النزعة العالمية أشبه بالخونة الذين لا يضعون بلدهم، ومواطنيهم أولا.
وفي العقود الأخيرة زاد انعدام ثقة الجاكسونيين في وطنية نخبة مع انتقائية البلاد إزاء سياسات الهوية، حيث يزخر المشهد الأمريكي المعاصر بالحركات المدنية والسياسية، والأكاديمية الحافلة بمختلف الهويات العرقية، والعنصرية، والجنسية، والدينية.
كما رحبت النخبة تدريجيا بمطالب الأمريكيين الأفارقة واللاتينيين والنساء والمجتمع المثلي، والأمريكيين الأصليين والأمريكيين المسلمين، بالاعتراف الثقافي، ومع ذلك، فإن الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة لمعظم الجاكسونيين، الذين لا يعتبرون أنفسهم ينتمون إلى أي من تلك الفئات.
ويستطيع البيض الذين ينتظمون في جماعات ذات جذور عرقية أوروبية معينة، أن يفعلوا ذلك بسهولة؛ فلدى الأمريكيين الإيطاليين، والأمريكيين الايرلنديين، على سبيل المثال، تقاليد عريقة ضمن جماعات الهوية الأمريكية.
لكن تلك الهويات العرقية القديمة تتلاشى، على نحو متزايد، وهكذا، يجد كثير من الأمريكيين البيض أنفسهم في مجتمع يتحدث باستمرار عن أهمية الهوية، التي تثمن الأصالة العرقية، وتوفر مزايا اقتصادية ومزايا اجتماعية للجميع باستثنائهم.
أما بالنسبة للأمريكيين من أصول أوروبية مختلطة أو للملايين الذين يعتبرون أنفسهم أمريكيين ببساطة، فلا تكاد توجد أمامهم سبل مقبولة للاحتفال بالتراث أو حتى التواصل معه
وهناك أسباب كثيرة لذلك، على مدى تاريخ الولايات المتحدة، ويمكن آن تعكس المقاومة المتنامية بين العديد من الناخبين البيض لما يسمونه "الاستقامة السياسية" والرغبة المتزايدة للتعبير عن إحساسهم بهوية الجماعة يمكن أن تعكس أحيانا العنصرية.
ويتهم الناس دائما بالعنصرية عندم يفكرون بشكل إيجابي حول ما يعتبرونه هويتهم، ويرجع صعود ما يسمى بديل اليمين إلى هذه الدينامية، جزئيا على الأقل.
وأدى ظهور حركة بلاكلايفز ماتر (حياة السود تهم)، والتعبيرات العنيفة في بعض الأحيان عن المشاعر المناهضة للشرطة في السنوات الأخيرة إلى زيادة إحساس الجاكسونيين بالاغتراب الثقافي، ومرة أخرى، ليس بسبب العرق فقط.
لأن الجاكسونية تدعم الشرطة، كما أنها تدعم الجيش. وترى أن من يتولون حماية المجتمع يرتكبون الأخطاء أحيانا، ولكن الأخطاء لا مفر منها في خضم القتال، أو في مواجهة الجريمة.
وكثيرا ما يعتبر الجاكسونيون الاحتجاجات التي يراها العديد من الأمريكيين سعيا لتحقيق العدالة، هجمات على إنفاذ القانون والنظام العام.
وتعتبر قضيتا السيطرة على السلاح والهجرة من القضايا التي بلورت تصور لدى كثير من الناخبين أن المؤسسات السياسية لكل من الحزبين باتت تتعارض مع القيم الوطنية الأساسية. وغالبا ما يجد غير الجاكسونيين صعوبة في فهم عمق المشاعر التي تثيرها القضيتان وكيف تعزز مقترحات السيطرة على السلاح وإصلاح قوانين الهجرة الشكوك حول سيطرة النخبة والانتماء العالمي.
ويلعب الحق في حمل السلاح دورا فريدا ومقدسا في الثقافة السياسية الجاكسونية، ويعتبر العديد من الجاكسونيين التعديل الثاني الأكثر أهمية في الدستور، ويرى هؤلاء الأمريكيون الحق في الثورة، المنصوص عليه في إعلان الاستقلال، الملاذ الأخير للأحرر من أجل الدفاع عن أنفسهم ضد الطغيان، وهذا الحق غير قابل للتنفيذ، من دون إمكانية حمل السلاح.
كما يعتبرون حق الأسرة في حماية نفسها من دون الاعتماد على الدولة، ليس مجرد مثالية افتراضية ولكن ضرورة عملية محتملة، وأمر لا تهتم به النخب ولا تعارضه بجدية، (أصبح الجاكسونيون يشعرون بقلق متزايد من أن الديمقراطيين والجمهوريين الوسط وسيحاولون نزع اسلحتهم، ولعل هذا هو السبب في أن عمليات إطلاق النار وما يليها من انطلاق الدعوات للسيطرة على السلاح، تؤدي لارتفاع مبيعات الأسلحة، حتى مع انخفاض معدل الجريمة بشكل عام).
وبالنسبة للهجرة، أساء معظم غير الجاكسونيين أيضا فهم مصدر وطبيعة مخاوفهم. فقد ثار كثير من الجدل حول تأثير الهجرة على أجور العمال ذوي المهارات المتدنية وبعض الحديث عن كراهية الأجانب والخوف من الإسلام. لك في 2016 اعتبر الجاكسونيون الهجرة جزءا من محاولة متعمدة واعية لتهميشهم في بلدهم، كما اعتبروا حديث الديمقراطيين المفعم بالأمل عن "الأغلبية الديمقراطية الناشئة" في أمريكا، دعما لهذا التحول المتعمد في التركيبة السكانية الأمريكية.
فعندما يسمع الجاكسونيين عن دعم النخبة لمستويات عالية من الهجرة وما يبةومن لا مبالاتها حول الهجرة غير الشرعية، فإنهم يتحسسون على الفور محافظ نقودهم. وآخيرا أدت الموجة الأخيرة من الهجمات الإرهابية العشوائية إلى المزج بين الهجرة وقضايا الأمن الشخصي.
وباختصار، يرى ميد أن العديد من الأمريكيين صوتوا في نوفمبر معبرين عن عدم ثقتهم، ليس في طرف معين ولكن في الطبقات الحاكمة بشكل عام وما يرتبط بها من أيديولوجية العالمية. ولم يكن العديد من ناخبي ترامب مهتمين بدفع برنامج محدد ، بل وقف ما يبدو انه اتجاه بلادهم نحو كارثة.
نظرة إلى المستقبل
فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ؟ اضطر العديد من الرؤساء السابقين لمراجعة أفكارهم بشكل كبير بعد وصولهم إلى المكتب البيضاوي، وربما لا يكون ترامب استثناء، وليس من الواضح تماما ماذا ستكون عواقب من يحاول أن يحول سياساته غير تقليدية إلى واقع عملي (ربما يصاب الجاكسونيين بخيبة أمل مع الفشل والابتعاد حتى عن الأبطال الذين وقفوا وراءهم، وهو ما حدث مع الرئيس جورج دبليو بوش، و يمكن أن يحدث مع ترامب، أيضا.)
وحاليا يتشكك الجاكسونيون في سياسة الولايات المتحدة من المشاركة العالمية وبناء النظام الليبرالي، ويرجع ذلك إلى انعدام الثقة فيمن يتولون صياغة السياسة الخارجية أكثر من الرغبة في تطبيق رؤية بديلة محددة. فهم يعارضون الاتفاقات التجارية الأخيرة ليس لأنهم يفهمون التفاصيل والنتائج المعقدة للغاية لتلك الاتفاقات، ولكن لأنهم باتوا يعتقدون أن المفاوضين في تلك الاتفاقات لم يضعوا بالضرورة مصالح الولايات المتحدة أولا.
الواقع أن معظم الجاكسونيين ليسوا خبراء في السياسة الخارجية ليس من المتوقع أن يصبحوا خبراء؛ ولكن القيادة بالنسبة لهم، هي بالضرورة مسألة ثقة، بيحث يصبحون على استعداد لقبول السياسات التي تبدو غير بديهية وصعبة، اذا تبناها زعيم يؤمنون أو حركة سياسية يثقون بها.
ولم يعد لديهم مثل هذه الثقة في المؤسسة الأمريكية، وسوف يترقبون الحكم في واشنطن بحذر إلى أن تتم استعادة هذه الثقة. لكن الجاكسونيين يرون آن ترامب إلى جانبهم بشكل لا لبس فيه. بنما لا يشعرو بمثل هذه الثقة في نخب في بلادهم الت تهتم بالدور العالمي للولايات المتحدة.
وعلى مدى ربع القرن الماضي، أصبح صناع السياسة الغربية مفتونين ببعض الأفكار التي تعرضت لتبسيط خطير. فهم يعتقدون ان الرأسمالية تم ترويضها ولن ينجم نها مرة أخرى الاضطرابات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. ويرون أن الأيديولوجيات المتعصبة والعواطف السياسية صارت في مزبلة التاريخ، ولم يعد يتمسك بها إلا من "يتمسكون بالاسلحة او الدين أو الكراهية تجاه من لا يشبهونهم. . . باعتبارها وسيلة لتفسير إحباطاتهم "، كما قال باراك أوباما في عبارته الشهيرة عام 2008. ومن شأن مرور الوقت والحركة العادية للتاريخ أن تحل مشكلة بناء نظام عالمي ليبرالي يحتاج فقط إلى تفعيل التفاصيل.
ومن هذا المنظور يعتبر العديد من التطورات من الأخيرة ـ من هجمات 11/9 والحرب على الإرهاب، إلى الأزمة المالية، إلى الصعود الأخير للشعبوية القومية الغاضبة على جانبي المحيط الأطلسي ـ بمثابة مفاجآت غير مهذبة. ومن الواضح بشكل متزايد أن العولمة والأتمتة ساعدتا في تحطيم النموذج الاجتماعي والاقتصادي الذي أقام دعائم الازدهار والسلم الاجتماعي المحلي، بعد الحرب. وسوف تتحدى المرحلة المقبلة من التطور الرأسمالي أسس كل من النظام الليبرالي العالمي والعديد من ركائزه الوطنية.
في هذا الاضطراب العالمي الجديد، لم يعد من الممكن إنكار قوة سياسات الهوية. فقد اعتقدت النخب الغربية أن العولمة سوف تنتصر على الرجعية والولاءات القبلية، في القرن الحادي والعشرين. لكنها لم تفهم الجذور العميقة لسياسة الهوية في النفس البشرية، وضرورة أن تجد تلك الجذور تعبيرا سياسيا في الساحتين الخارجية والداخلية. كما عجزت عن فهم أن نفس قوى التطور الاقتصادي والاجتماعي التي عززتها العولمة، من شأنها أن تولد الاضطراب والمقاومة في نهاية المطاف.
ولذا فإن التحدي الذي يواجه السياسة الدولية في الأيام المقبلة ليس إكمال مهمة بناء النظام العالمي الليبرالي على أسس تقليدية، بقدر ما هو ايجاد وسيلة لوقف تآكل النظام الليبرالي النظام العالمي على أساس أكثر استدامة. ويخلص الكاتب إلى أن النظام الدولي لا يحتاج فقط إلى إجماع النخبة وموازين القوى والسياسة ولكن أيضا على الخيارات الحرة للجماعات الوطنية، التي تحتاج إلى الشعور بالحماية من العالم الخارجي بقدر ما تريد أن تستفيد من التعامل معه.