الكرتونة وحدها لا تكفي والبدائل متسعة رغم ضيقها
في وقت تسير تفاصيل الحياة اليومية من صعب إلى أصعب، والأسعار من مرتفعة جداً إلى بالغة الارتفاع، والقوة الشرائية من ضعيفة إلى بالغة الضعف، والقدرة على استشراف المستقبل القابع على مرمى يوم أو اثنين شبه منعدمة، يبذل بعضهم جهوداً عنكبوتية أو يقدح زناد فكره بأفكار غير تقليدية أو وصفات شعبية بهدف تخفيف حدة الصدمة الاقتصادية والعمل على الخروج من عنق زجاجة بات مستحكماً بأقل أضرار ممكنة.
«لو بإمكانك مساعدة الآخرين، ولو في أضيق الحدود، افعل ذلك فوراً»، تقول بداية إحدى مئات الرسائل التي تجوب «فايسبوك» و «تويتر» و «واتس آب». يبتكرها أحدهم ويرسلها إلى أصدقائه، فتجوب أرجاء الشبكة العنكبوتية فاتحة باب الإضافات وإمكانات التعديلات. «ارفع أجر عاملة النظافة وحارس العقار بنسبة تتراوح بين 20 و30 في المئة. وضاعف البقشيش الذي تدفعه في محطة الوقود أو المطعم أو عامل توصيل الطلبات للمنازل بالنسبة نفسها. الفقراء هم الأكثر والأسرع تأثراً بالتقلبات الاقتصادية. قد تقل أموالك نظرياً لكن البركة ستضاعفها فلا تتردد».
لكن التردد سمة رد الفعل الشعبي على الضربات الاقتصادية المتلاحقة. واتضح أن التردد أنواع وفئات بحسب الطبقات الاجتماعية المعنية. فهناك من يتردد في اختيار أنواع الجبن المستوردة التي كان يشتريها، أو يتردد في مدى ترشيد الكمية المشتراة، ويظل هناك من يتردد في التوجه إلى محل البقالة للشراء من الأصل. وبين هذا وذاك درجات متفاوتة من المصريين ممن يبتكرون ويجتهدون للخروج بأقل خسائر ممكنة.
الخسائر الناجمة عن التعويم ورفع سعر الوقود أطلقت يد فئة عريضة من مقدمي الخدمات غير المنظمة رسمياً لتعوض نفسها عبر زيادة التسعيرة. هذه الزيادة المفروضة على قطاع آخر عريض من المواطنين لا يمتلكون سوى رواتبهم الثابتة تسبب ألماً رهيباً للمتضررين وراحة سريعة للمنتفعين. سائقو سيارات الأجرة التي يفترض أن تكون أجرتها محددة بالعداد أوقفوا عداداتهم. وسائقو سيارات الميكروباص ضاعفوا الأجرة على رغم أن الجهات الرسمية رفعتها خمسين قرشاً أو جنيهاً واحداً. أصحاب المهن الهامشية غير المنظمة رسمياً مثل «السُيّاس» الذين نصبوا أنفسهم ملاكاً لمواقف السيارات الخاصة في المدن الكبرى، وعاملات المنازل، وبائعي الأرصفة وبائعات الخضروات والفواكه على الطريق، جميعهم أقدم على رفع أسعار سلعه وخدماته بنسب متفاوتة يحددها كل منهم.
وفي خضم هذا الهرج الاقتصادي والمرج الدولاري، تتواتر أخبار عن زيادة تسعيرة الكهرباء ثم تُنفى، ورفع أسعار تذاكر المترو ثم تُنفى، وزيادة أسعار الخبز المدعم ثم تُنفى، وزيادة أسعار الدواء ثم تُنفى، وهو ما يستنفر أعصاب ملايين المصريين الجالسين على صفيح الإجراءات الاقتصادية الجريئة الساخن.
نفي الزيادات، ثم التلميح بموجة جديدة من إلغاء دعم هنا، أو تحرير سعر دواء هناك، أو فرض القيمة الفعلية لتذكرة المترو التي هي عشرة أضعاف سعرها يرهق المواطنين عصبياً ونفسياً، وهو الإرهاق الذي يحاول مسؤولون علاجه عبر التصريحات المسكنة أو التأكيدات المهدئة أو الابتسامات الملائكية. «لا زيادة في أسعار الخبز»، «الرئيس يوجه بعدم زيادة أسعار الكهرباء»، «لا زيادة في سعر تذكرة المترو الآن»، «إجراءات سريعة لتوزيع كرتونات تحوي سلعاً غذائية رخيصة بسيارات متنقلة في جميع الأحياء». وعلى رغم تلك المسكنات العصبية والمهدئات عبر السلع الرخيصة، فإن الجميع يعلم أن التصريحات إلى زوال والكرتونة وحدها لا تكفي.
وبينما حديث الكرتونة وتصريحات التهدئة ونفي الزيادات تملأ أرجاء البلاد، تمضي المشاريع القومية الكبرى قدماً كأن لا أزمة دولار أو غرق جنيه أو اشتعال أسعار أو فزع من المستقبل. عاصمة إدارية جديدة تمضي قدماً، ومحطات مترو أنفاق جديدة يستهل العمل فيها، وطرق إضافية يتم تجهيزها، وجهود إعلامية يبذلها مذيعون مشهورون علّها تهدئ من الروع أو تقلل من الوقع أو تدفع إلى الرحيل. وفي كل ليلة يستمع ملايين المشاهدين إلى شروحات مبسطة ومقترحات معقدة عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. فالإجراءات كانت واقعة لا محالة، والعبرة بسبل التعايش وطرقه للخروج من عنق الزجاجة. نصائح بالترشيد، وعظات عن التقطير في زمن الأزمات، ومدارس في التدعيم وخلق رأي عام على قناعة بما هو حاصل. «إجراءات عظيمة تعني أننا على الطريق الصحيح»، «إجراءات هرب منها السادات ومبارك وها هي تتحقق الآن»، «إجراءات ممتازة ولكن العبرة بدفع عجلة الإنتاج»، «إجراءات صحيحة لكن في حاجة إلى حماية للطبقات الدنيا وتدعيم للطبقات الوسطى»، وإن عجز كل ما سبق أو أخفق في الإقناع تخرج ممثلة أصبحت مذيعة لتخبر المعترضين «اللي مش عاجبه تعويم الجنيه يسيب (يغادر) مصر. لو انتم مش مصريين بقى ومش عاجبكم الحال يا عم توكل على الله وامشي منها، ومش ناقصينك».
وهكذا تتراوح الحلول وتتنوع الاقتراحات لتترك المصريين قيد حرية الاختيار وبلاغة الاقتراحات واتساع البدائل رغم ضيقها.
نقلا عن الحياة