مصريون يهدمون جدار الممانعة ويقبلون عودة اضطرارية لرجال مبارك
إنها القاعدة الشعبية الأكثر توسعاً والأعمق تمدداً والأعتى تألماً لكنها الأصدق تفاعلاً. إنها سائق الأجرة، وموظف الهيئة، وعامل المترو، وموظف الأمن، ومندوب المبيعات، وبائعة الخضراوات، و «أرزقي» البناء. إنها القاعدة الشعبية التي تصارح نفسها هذه الأيام وتجاهر بأوجاعها وتضع حلولاً وتقترح خروجاً من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة عبر العودة إلى المربع صفر.
الجيب الصفر من الأوراق النقدية الأكبر من فئة الجنيهات العشرة دفع صاحبه إلى المجاهرة بالحنين إلى زمن كان الزهر قد بدأ يلعب فيه بالفعل. سمسار الشقق والسيارات والأجهزة والوظائف وكل ما يمكن السمسرة فيه سابقاً العاطل عن العمل حالياً يدندن مع الأغنية الشهيرة كلماتها وعيناه تلمعان حنيناً وشوقاً. «آه لو لعبت يا زهر واتبدلت الأحوال وركبت أول موجة في سكة الأموال». يترك «آه لو لعبت يا زهر» لمطربها يكملها وحده ويقول الرجل بأسى شديد: «المشكلة هي أن الزهر لعب بالفعل أيام (الرئيس السابق حسني) مبارك لكننا لم ندرِ». الرجل الذي أخذ يعلن اليوم الذي نزل فيه مستطلعاً ميدان التحرير قبل ست سنوات، ثم هاتفاً مع الهاتفين بعد انتقال عدوى الأدرينالين الثوري إليه، ثم عاد إلى بيته وهو لا يدري أنها عودة ستطول وعمله القائم على خصم عمولات من البائع والمشتري سيتبخر في رياح التعويم ومن قبله زعابيب الإرهاب وبينهما أعاصير شح الإنتاج وتضخم الاستيراد. واليوم يجاهر بما كان يجول في خاطره من أمنيات مكبوتة وأحلام ممنوعة.
قوائم الممنوعين من السفر، وأخرى للمترقب وصولهم، وثالثة للواقعين تحت طائلة الغضب الشعبي أو الانتقام الثوري أو حتى التكفير «الإخواني» تبخر معظمها. الغُلب الذي يرزح تحته كثيرون ويعاني منه ملايين، تارة بفعل توقف السياحة، وأخرى بفعل تعثر الصناعة، وثالثة بسبب توغل الفوضى الشعبية وتوحش السرقة والانتهازية شجع قطاعات عريضة من الشعب على مراجعة حساباتها الحياتية ومعاودة أولوياتها الاقتصادية وإعادة النظر في أحكامها العاطفية.
عاطفة جماعات «آسفين ياريس» التي سيطرت عليها إبان تكوينها منذ العام 2011 وارتكزت على مشاعر حب طاغية وأحاسيس عرفان بائنة وسكاكين ذنب غائرة تجاه مبارك تشهد هذه الآونة توسعاً أفقياً وتوغلاً مجتمعياً، لكنها لا ترتكز على عواطف استيقظت فجأة أو مشاعر اشتعلت من دون سابق إنذار. فمقارنة الحال بالحال، ومحاججة الاقتصاد بالاقتصاد، ومقابلة الأوضاع بالأوضاع تدفع كثيرين إلى هدم جدار الممانعة والتغلب على وصمة المهادنة والمجاهرة بالمطالبة بعودة، ولو من بوابة الطوارئ، لرجال من عصر مبارك.
«عصر مبارك حفل بعدد من ألمع وأذكى وأنجح رجال الاقتصاد، شاء من شاء وأبى من أبى، والأرقام لا تكذب، والشارع لا ينكر». دوَّن أحدهم على «تويتر» لتأتيه الردود دافقة مثمنة كلماته ومعيدة تغريد تلميحاته، حتى وإن اعترض بعضهم على أفكاره من باب «دم الشهداء» و «كأنك يا أبو زيد ما غزيت» و «يا ثورة ما تمت». أثير «تويتر» في هذا الشأن لا يختلف كثيراً عن نبرة متعاظمة وكلمات متداولة تتراوح بين اضطرار «الضرورات تبيح المحظورات» وأفضلية تسليم مقاليد الاقتصاد لمن لديه الخبرة والقدرة على الإنجاز.
أنجز المصريون ثورتين وما قبلهما وبعدهما وأثناءهما من أحداث جسام وحوادث عظام. ورغم ذلك فإن أحداً لا ينكر ميلاً شعبياً واضحاً، وربما عدم ممانعة مصرية بائنة، في عودة هذا بعد مصالحة لتولي منصب قيادي، أو رفع حجر التعتيم عن ذاك والاستفادة من بصيرة عملية ثاقبة ولو من خلال موقع استشاري، أو إزالة ستار التجهيل عن هؤلاء وأولئك لو كان بينهم من هو قادر على تصحيح الحال الاقتصادية أو تجميل الوضع المعيشي بالغ الصعوبة.
صعوبة اعتراف قطاعات كبيرة من المصريين باستعدادهم للعودة إلى المربع صفر بعد طول مقاومة ومكابرة، خفف من حدتها الشعور الجمعي والوضع الآني. عبارات كثيرة يرددها المواطنون في أحاديثهم اليومية. «ما العيب في أن يعود من لم يخطئ أو ينهب ليأخذ منصباً يساعد فيه البلد على الخروج من الأزمة الاقتصادية؟»، «والله هؤلاء ظُلموا. فقد وضعناهم جميعاً في سلة واحدة وكان علينا أن ندقق ونفرز»، «لو إبليس قادر على أن يخرجنا مما نحن فيه فلنستعن به».
الاستعانة بالإعلام في تحديد المسار لم يعد لها اليد العليا. والاعتماد على النخبة في تنقيح الرجال لم تعد له السطوة. وإصدار الأحكام الشعبية على من حكم، ومن سرق، ومن نهب، ومن هرب، ومن لم يفعل لم يعد القضاء وساحاته حده الفاصل. وانتقاء الأخيار من بين جموع الأشرار لم يعد عملية تضلع فيها الأحزاب أو تدلي فيها الائتلافات الثورية بدلوها.
مرحلة فريدة ومختلفة وغير متوقعة تعلن قطاعات من المصريين استهلالها في غفلة عن النخب. فرغم استمرار كتابات على غرار «كابوس عودة رجال مبارك» أو «كارثة ظهور رموز نظام مبارك» أو «مصيبة إطلالة أسماء ظننّا أنها اختفت» وغيرها، ورغم أنف تحذيرات خفية يطلقها ضيوف في الفضائيات هنا أو تلويحات مباشرة يقولها كتاب رأي هناك، إلا أن قطاعات شعبية حسمت أمرها.
ورغم درجات القبول المختلفة وكميات التسييس المتراوحة ومعايير الاستعانة بالعائدين في مناصب متداخلة، يبزغ اتجاه واضح لهدم جدار الممانعة، وخفض حدة المقاطعة، وفتح نافذة المصالحة عبر بوابة الحاجة أم الاختراع، أو الاستعانة تحت وطأة الاضطرار.