المرض الذي يحكمنا
في أواخر عام 2015 لاحظت منى، الطبيبة العراقية الأصل، تضاعف أعداد الأطفال الذين يُعانون من ارتفاع في نسبة الرصاص في الدم في المستشفى التي تعمل بها بمدينة «فلنت» بولاية ميتشيجن الأمريكية، فقامت بأخذ عينات من المياه التي يستخدمها سكان المدينة من مناطق مختلفة، وأجرت عدة تحليلات عليها، ثم أجرت دراسة مستندة إلى نتائج هذه التحاليل ومُستعينة بسجلات تحاليل الدم بالمستشفى بدءًا من تاريخ تغيير مصدر المياه المُغذي للمدينة، ليتضح لها ما كانت تشُك فيه.
قامت الطبيبة بعقد مؤتمر صحفي أعلنت خلاله أن مياه الشُرب التي تُغذي المدينة تحملُ سُمًا يهدد حياة السكان، مُتهمة المسؤولين بالإهمال في صحة المواطنين ومُطالبة بالتحقيق الرسمي في الموضوع، فقامت السُلطات على الفور بالتوقف عن ضخ المياه من المصدر المشكوك فيه وإجراء تحقيق رسمي في الموضوع تبين من خلاله صدق ادعاءات الطبيبة، ثم أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما حالة الطوارئ في المدينة وتوفير دعم فوري للحصول على مياه نظيفة.
كما قام حاكم الولاية بعزل وزير البيئة في الولاية وقدم اعتذارًا للسكان عن تلك الكارثة، ووجّه الشكر الكثير للطبيبة التي اختارتها لاحقًا مجلة التايم ضمن قائمة أقوى 100 شخصية في العالم إلى جانب رؤساء وقادة الدول.
الضمير الحي الذي دفع الطبيبة العراقية منى إلى ما صنعت، هو نفسه الذي دفع طبيبة تحمل نفس الاسم إلى فعل الشيء نفسه وفضح كوارث كُبرى تحصُد أرواح الملايين داخل القطاع الصحي في مصر نتيجة سياسات خاطئة أو متعمدة لخدمة مصالح البعض، إلا أن حظها العاثر لم يوقعها في مسؤولين مماثلين.
وكلما خرجت تُحذر وتصرخ لإنقاذ صحة الناس بإصلاح المنظومة المتهالكة، وتطالب بأجر عادل يحفظ كرامة الساهرين على صحة هؤلاء الملايين، ومحذرة من نقص المحاليل والأدوية وكوارث في لبن الأطفال وحقن الحوامل وغيرها وغيرها، كانت تتلقى السب والتخوين.
ردود فعل المسؤولين على الدكتور منى مينا خلال الأعوام الكثيرة الماضية لم يثنها عن واجبها بالمطالبة بإصلاح المنظومة، حتى خرجت في إحدى المرات مُحذرة من كارثة نقص المستلزمات الطبية، وهي الكارثة التي يعرفها جيدًا كل أطباء مصر وكذلك ملايين المرضى الذين يترددون على المستشفيات العامة، فقامت السُلطات المعنية بتجاهل المشكلة والتركيز على مُعاقبة الطبيبة على واجبها الذي أدته.
فسارع وزير الصحة وهو المسؤول المباشر عن القطاع -الذي وصل لحالة تُشبه الدول المنكوبة– باتهامها ورفع دعوى ضدها، بجانب اتهامها إعلاميًا من بعض أذناب النظام بتهمة تحمل من السخرية أقل مما تحمله من ألم، حيث اتهموها بالإضرار بالسياحة العلاجية في دولة تحتل المرتبة الخامسة عالميًا في الاتجار بالأعضاء البشرية، وفق تصرح الدكتورة نهال فهمي خبيرة مكافحة الاتجار بالبشر في الأمم المتحدة سابقًا.
ما حدث مع الدكتورة منى مينا يُشبه حد التطابق مع حدث مع المستشار هشام جنينة الذي ينتظر السجن جزاءً لقيامه بواجبه في فضح جزء من تلال الفساد في مصر التي لا تُخطئها عين، وإصدار تقرير عن ذلك الجزء الصغير، فتم اتهامه ومُحاكمته، حتى بلغت الوقاحة من النظام أن قام بإسناد التحقيق في كلامه إلى بعض المتهمين في وقائع فساد شملها تقريره.
أشدُ من ذلك يُواجهه الأستاذ جمال عيد، أحد فرسان الدفاع عن حقوق المصريين لسنوات طويلة، والذي لم يكتفِ بفضح إهمال الدولة وتعمد القائمين على إدارتها إهانة الناس وانتهاك حقوقهم، إنما قام بإنشاء خمس مكتبات في مختلف أحياء مصر مُساهمة منه في رسم طريق الوعي الضروري واللازم لبناء بلده، مُستندًا إلى المبلغ الذي حصل عليه من جائزة دولية كانت مكافأة له على نضاله العظيم، وهو الصنيع العظيم الذي قابله النظام الحاكم بإغلاق مكتباته ومصادرة أمواله عقابًا له على دفاعه عن حقوق الناس في حياة كريمة، وحرم عشرات الآلاف من الأطفال الذين وجدوا في المكتبات ملاذًا من جهل طهاة الكفتة بالإيدز.
ما حدث مع الدكتورة منى ومع المستشار جنينة ومع الأستاذ جمال عيد هو ما حدث مع آلاف النشطاء الذين يملؤون سجون النظام لا لشيء إلا لاعتراضهم على تفشي الاستبداد والفساد في أرجاء مصر، وهو ما يحدث مع عشرات العاملين في المنظمات الحقوقية الذين يتم التحفظ على أموالهم وسجنهم لفضحهم انتهاكات النظام وإجرامه.
الفارق بين رد فعل الحكومة الأمريكية وتعامل النظام المصري، أنهم يعملون لصالح أمتهم ولا يتوانون في معالجة أي مرض يُصيب جسدها، ويُقدرون كل شخص يكشف عن ذلك المرض، أما نظامنا الحاكم فهو يحُارب أولئك الأبطال ولا يدخر جهدًا في التنكيل بهم؛ وذلك لأن هذا النظام هو المرض وهو الفساد وهو الجهل الذي أصاب الوطن ولا يعمل إلا لمصلحته ومصلحة خلاياه التي تنهش في جسد الأمة وتسلب من الناس أقواتهم وتسرق فتات زادهم، ولا يشغلها إلا زيادة ما يكنزون وما يُهربون من ثروات، ولا ينغص عليهم أبدًا حقيقة أن تلك الأرقام تزداد بزيادة أعداد المطحونين والفقراء.
*قصيدة عابرون في كلام عابر للشاعر الفلسطيني محمود درويش
النص الأصلي اضغط هنـــــــــــــــا