حول إصلاح المجال الديني في تجربتيه الاسلامية والمسيحية
شاركتُ، وعلى مدى يومين مكثفين، في ندوة دولية بعنوان: «في إصلاح المجال الديني»، أقامها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع «المعهد السويدي في الإسكندرية» في مدينة الحمَّامات في تونس في الفترة 28- 29 تشرين الثاني(نوفمبر).
وشارك في هذه الندوة المهمة لجهة توقيتها وموضوعها ثلة من كبار الباحثين والمفكرين العرب، ومن مختلف التوجهات الفكرية والسياسية. وأول ما يلفت الانتباه أنه تم التحضير لها على مدى عام كامل، الأمر الذي انعكس بصورة إيجابية على طبيعة الأوراق البحثية المشاركة فيها، وعلى التعقيبات العلمية للأوراق أيضاً.
توزعت الأعمال المشاركة على حقول أو أبحاث سبعة تغطي مجمل الإشكالية بدءاً من طرح التساؤل المبدئي: «لماذا إصلاح المجال الديني؟» والذي اشتغل عليه المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز في الجلسة الأولى، ومروراً بجوانب الإصلاح الديني والتجدُّد الحضاري المختلفة، وانتهاء بموضوع ورقتي: «إصلاح مؤسسات المجال العام: التعليم الديني في الأزهر أنموذجاً» والتي اشتملت بطبيعة الحال على جانبين رئيسين: أولهما نظري عرضتُ فيه لمفهوم المؤسسات الدينية وموقعها في التاريخ والحاضر، ثم تحدثت عن مسارات وخيبات عمليات الإصلاح والتجديد، أو ما أطلقتُ عليه تسمية «النهوض العاثر»، وذلك من خلال التركيز على تجربة الإمام محمد عبده الإصلاحية بصفة خاصة. أما ثانيهما فجانب تطبيقي قمتُ فيه بتفحُّص مناهج التعليم الديني في الأزهر، بخاصة في فرعي الفقه والعقيدة - علم الكلام، منتهياً إلى مساءلتها بخصوص خمس قضايا أساسية، ألا وهي: غياب منظومة حقوق الإنسان، وغلبة الطابع الشكلاني ونبرة التحريم والاهتمام بالقضايا الغيبية، والحدود الشرعية، ووضعية المرأة في إطار المساواة وغير المسلمين في إطار المواطنة، وأخيراً الموقف من الفلسفة والقضايا الكلامية.
في التساؤل البديهي حول «لماذا إصلاح المجال الديني»، ابتدأ عبدالإله بلقزيز بحث الإشكالية من منطق الهواجس التي تثار في شأنها، أو ما أطلق عليه «الرفض العصابيّ لأي حديث عن الإصلاح الديني»، والذي يعود برأيه إلى عاملين أساسيين: أحدهما معرفيّ، وثانيهما مصلحي. ويقصد بالعامل الأول أن الذين يحتجون بصخب في العادة على مبادرات ودعوات الإصلاح الديني إنما يعانون نقصاً معرفياً في إدراك المعنى المقصود من الإصلاح. أما العامل المصلحي فقد عبّر عنه بالقول: ولكن هؤلاء الذين يحتجون على الفكرة، إنما يفعلون ذلك دفاعاً عن مواقع لهم يقتاتون منها، ومصالح يحرصون عليها أشد الحرص، هي مواقع سدنة المقدس، هؤلاء يفرضون أنفسهم حراساً للدين، وتمنحهم السلطة الانتهازية شعوراً بأنهم ينهضون بتلك الوظيفة».
بعد ذلك، عرض بلقزيز مسوغات إصلاح المجال الديني الذي يقصد به مجالاً واسعاً من المعطيات الدينية أو المرتبطة بالسياسات الدينية في المجتمعات العربية الإسلامية، وهي في الأصل عبارة عن مزيج من معطيات فكرية تتعلق بنوع الصلة التي ينسجها الوعي بالدين، ومعطيات اجتماعية سياسية تتعلق بنوع السياسات التي تنتهجها الدولة في إدارة الشأن الديني، منتهياً إلى تقرير أن العلاقة مفتوحة بين الأمرين تظل مفتوحة على نتيجتين مختلفتين لجهة تقدم السياسات الدينية وتأخرها.
في الورقة الثانية التي حملت عنوان: «إصلاح المجال الديني والتجدُّد الحضاري»، ابتدأ زياد حافظ موضوعه بطرح جملة من التساؤلات الحاكمة لقضايا الإصلاح والتجديد، وما إذا كان المقصود بها الإقرار ضمناً بأن ثمة خللاً في المجال الديني، وما هو المقصود بتعبير «المجال الديني»؟ وأخيراً ما هي الجدوى الحقيقية المترتبة على طرح هذه الإشكالية؟ بعد ذلك أخذ في شرح ما تقصده الورقة بمفهوم «التجدّد الحضاري» الذي يستند برأيه إلى مجموعة من الاعتبارات حدّدها بخمسة، مُنتهياً إلى ضرورة إعادة قراءة التراث الفكري في ضوء التحديات التي نواجهها اليوم، وبما يتضمن إعادة الاعتبار للعقل العربي، مؤكداً أن عصر النهضة كان محاولة للتجدد الحضاري على الرغم من الإخفاقات العديدة التي مُنِي بها. كما عرض أخيراً مسألة علاقة الخطاب الديني بالتجدد الحضاري، معدّداً الأسباب التي ساهمت في تقزيم التجدد الحضاري، وفي مقدمها: تسييس الخطاب الديني وتوسيله لخدمة أغراض السلطة.
في البحث الثالث الذي حمل عنوان: «التجربة المسيحية في الإصلاح الديني: قراءة تاريخية نقدية»، قارب يوحنا عقيقي الإشكالية في السياق المسيحي مستعرضاً أهم الإنجازات المسيحية في ما يتعلق بمسألتي الإصلاح والإصلاح العكسي، وذلك ضمن محاور ثلاثة تساعد برأيه في استعراض الموضوع ضمن سياقه التاريخي. وضمن هذا الإطار، إطار القراءة التاريخية النقدية، ركز الباحث على ثلاث ركائز أساسية، ألا وهي: الركيزة الكتابية ممثَّلة في النص المقدس، والركيزة الإنسانية والمجتمعية باعتبار غائية الكتب السماوية، وأخيراً الركيزة الكنسية الكاثوليكية والمؤسساتية بنوع خاص ممثلة في المجمع الفاتيكاني الثاني وما بعده، ثم اختتم ورقته بالحديث عن «الإصلاح الماروني والترجمة الفعلية لمقررات المجمع الفاتيكاني الثاني».
وبالعودة إلى إصلاح المجال الديني في الفضاء الإسلامي، قارب عزيز العظمة في البحث الرابع موضوع «الخبرة الإسلامية الحديثة: الإصلاحيون النهضويون وفكرة الإصلاح في المجال الديني». وقد أثارت ورقته بصفة خاصة العديد من النقاشات حيث وصفت بأنها ورقة أيديولوجية محضة، واتسمت بغلبة الأحكام العامة القطعية منذ السطر الأول لها، والذي جاء فيه: «لم يُعن النهضويون كثيراً، أو لم يُعن جلّهم بشؤون الإصلاح الديني رغم تشديدهم على ممانعة الدين وأربابه لشؤون التقدم». كما ساد الورقة منطق الثنائيات المتقابلة من مثل: النهضة بالمعنى الحداثي في مواجهة النهضة بالمعنى النكوصي- الرجعي، فضلاً عن محاكمة النوايا والقطع بالقول: إن الإصلاحيين، أو النهضويين أمثال محمد عبده، إنما اشتغلوا بالإصلاح الديني من باب ممالأة العاطفة الدينية واستخدام التقية، ووسم المعنيين بقضايا الإصلاح الديني في الأزمنة الحديثة بما يسميه «الدروشة الثقافية». أيضاً انطوت مقاربة العظمة على تناقض صارخ حين صرح بأن المتشدد الديني أكثر منطقية في التعامل مع النص الديني، بما يشي بأن النص الديني متشدد بالأساس، ثم دعا إلى ضرورة تحرير النص الديني من التوظيف السياسي وفتحه أمام الاعتبار أو التحليل التاريخي.
في الورقة الخامسة التي حملت عنوان: «الاجتهاد والنص الديني»، قارب وجيه قانصو إشكالية الاجتهاد والنص الديني، وما إذا كانت تعبر في الأساس عن أزمة في الفهم، أم عن أزمة في العلاقة بينهما. مؤكداً أنه لا بد من التمييز بين نمطين تاريخيين لحضور النص الديني، أحدهما: النص في زمن التأسيس، وثانيهما: النص في زمن التمأسس، أي زمن تلقيه بعد وفاة النبي. وهما زمانان استوجبا في المقابل نمطي تلق متمايزين حيث أحدثت وفاة النبي جملة من المتغيرات الموضوعية في النص الديني لجهة شكله وترتيبه، من أبرزها: غياب المؤسِّس، وتغير الشروط التاريخية والاجتماعية والسياسية بعد وفاته، وتغير متلقي النص بفعل توسع الانتشار الإسلامي، والانتقال من التداولي الشفاهي إلى التداولي الكتابي. منتهياً إلى ضرورة إحراز تحررين متوازيين: تحرر أول للاجتهاد المعاصر من إكراهات المعنى وإلزامات المداولة التي اعتمدها السلف في تلقي النص الديني، وتحرر ثان للنص الديني من الحمولات والدلالات المقررة سلفاً والتي تفرض عليه ما يجب قوله وتحجب عنه ما يمكن أن يقوله. وبرأيه فإن هذين التحررين كفيلان للمجتهد بأن يعايش هموم عصره، ويتلبس هواجسه وصولاً إلى بناء شروط جديدة للحوار والاتصال والتلقي ما بين المجتهد من جهة والنص الديني من جهة أخرى.
في الورقة السادسة ما قبل الأخيرة قارب الزميل صلاح سالم في موضوع «النص والمؤمنون: نقد الوساطة في الإسلام»، إشكالية العلاقة بين الله والإنسان والتي تشهد نوعاً من التقارب، عبوراً على تلك الفجوة الحاسمة بين الإسلام من جهة والديانتين الإبراهيميتين من جهة أخرى. ثم تحدث بعد ذلك عن الفردية الروحية والحرية الوجودية مؤكداً أن القرآن لم يخاطب أبداً سلطة قائمة، كما لم يدع إلى قيام هيئة تنفيذية، وإنما اقتصر على الإعلام والإنذار لما هو مسموح ومستحسن في سلوك البشر وما هو محظور ومحرم بعين الله عبر كل من الترغيب والترهيب، منتهياً إلى القول: لقد كان النص في الإسلام مشبعاً بممكنات حرية أنطولوجية تفوق أي دين آخر، ومن ثم كان ممكناً تأويله باتجاه أكثر الآفاق تحرراً لمن يريد أو يستطيع، فالحرية الباطنة في الإسلام كقيمة عليا أو تصور أنطولوجي للعلاقة بين الله والإنسان لم تُمأسس سياسياً أبداً، ولم تصبح ملهمة لحركة اجتماعية واسعة، أو أيديولوجية لجماعة سياسية بذاتها، ومن ثم افتقدت قوة الانتشار التاريخي.
وفي المحصلة يمكن القول إن الأوراق السبع المقدمة في هذه الندوة، بالإضافة إلى وجود تعقيبين اثنين لكل ورقة حيث شارك في التعقيب على الأوراق كل من: باسكال لحود، ونبيل عبد الفتاح، ومحمد سليم العوا، وعبد الغني عماد، ولويس صليبا، ومحمد الشيخ، وعبد السلام الطويل، ومحمد السماك، وآخرين، تعد بمثابة خارطة متكاملة لإشكالية الإصلاح الديني على مستوى كل من القضايا التاريخية والمؤسسات الدينية. ولا شك في أن الطريق شاق وطويل لكن الآونة الأخيرة شهدت زخماً في العناية بقضايا الإصلاح، بخاصة بعد إصدار الأزهر الشريف جملة من الوثائق التاريخية بعيد انتفاضات الخامس والعشرين من كانون الثاني(يناير)، والتي استحوذت بالفعل على حيز كبير من نقاشات المشاركين المصريين بصفة خاصة.