قصة أسرة سورية لاجئة في كندا
ما إن حطت الرحال بيان محمد، وهي لاجئة سورية في العاشرة من العمر، في كندا الشتاء الماضي، حتى بدأت تتغير وتتحول. ففي أول ساعة من التزلج على الجليد، استغنت عن المساعدة حين التزحلق. وربطتها صداقات بفتيات من منابت مختلفة لم يسبق لها أن تعرفت على امثالهن.
وربطت بيان بين نفسها وبين فيلم «آني» (طفلة يتيمة تلفت موهبتها انتباه أسرة ثرية فتتبناها) وبين باليه «سندريلا» وفصول من «عجلة الحظ»، أي بقصص التحولات والانقلاب من حال إلى أخرى. وصارت طليقة بالإنكليزية بعد أن كانت تتعثر في كلامها، وأنجزت كل ما صبّت وتاقت إليه (دروس الرياضة، صنع سيدة ثلج وليس رجل ثلج). «جل ما أريده هو أن أكون كندية». وأذهلت بيان المتطوعين - وهم مجموعة من المعلمين وأطباء الأطفال وأصدقاء وجيران حضّتهم صور اللاجئين وضحايا الحرب الأليمة على التطوع - الذين يسعون إلى تيسير عملية اندماج أسرتها واستيطانها في كندا. فوالداها، عبدالله وإيمان محمد، صاحب دكان سابق وممرضة من بلدة ريفية في محافظة درعا، نظرا إلى تحولات ابنتهما نظرة تجمع الفخر إلى القلق والحذر. فهما قدما إلى كندا مع أولادهما الاربعة، وتوقعا أن يلقاهما الناس بعدائية على نحو ما كان نصيب اللاجئين في أصقاع العالم وعلى المقلب الآخر من الحدود الكندية حيث حذّر دونالد ترامب من خطر استقبال لاجئين سوريين. ولكن كان في انتظارهما، على خلاف حسبانهما، حركة وطنية لمساعدتهما.
ومع تفتّت سورية، اتصل كنديون عاديون بمنظمات خاصة لاستقبال اللاجئين، وطلبوا تبني القادمين الجدد، وتطوّعوا بوقتهم وآلاف الدولارات لمساعدتهم في سنة وصولهم الأولى على العيش في كندا والتعرف على شِعاب الحياة اليومية فيها. ووفّر المتطوعون حاجات عائلة عبدالله محمد كلها: الشقة، والزيارات الطبية، ومعلومات عن موقع الجوامع ومتاجر الأطعمة الحلال.
ووقع الاستقبال الحار وقع المفاجأة على آل محمد، وشعروا بالامتنان. ولكن مع مرور 10 أشهر، كانت الصلة بالمتطوعين الكنديين تغيّر وجه العائلة وترسم الأدوار من جديد وقواعد السلوك. ووجد عبدالله وإيمان زواجهما في مرحلة جديدة، فالتوازنات الداخلية في الأسرة بدأت تتغير. وبيان، ابنتهما البكر، تنتقل من مرحلة الطفولة إلى المراهقة، وتتحوّل من فتاة شرق أوسطية إلى فتاة أميركية شمالية. وهي أكثر أولادهما تذكراً لحياتهم السابقة في سورية والعيش في منزل العائلة المتوارث على مدى ثلاثة أجيال. وحسِب والداها أن في وسعها الجمع بين هويتها الجديدة وهويتها القديمة، ولكنهما في أوقات أخرى خافا أن يتبدد أثر انتمائها السوري. والأرجح أن الأسرة هذه كانت ستجبه معضلات ثقافية لو حطت الرحال في ميونخ أو مينيابوليس، ولكن نظام الرعاية الكندي الخاص فاقم هذه المعضلات. فالكنديون والسوريون بموجب النظام هذا يتبادلون الزيارات من أجل ساعات إرشاد ودروس خصوصية، ودروس كومبيوتر، والاحتفال بالأعياد. ويتشاركون بالمهمات الأبوية مثل التواصل مع المعلمين في المدرسة، في وقت يجيد عبدالله محمد، الأب، الإنكليزية لماماً. «ما أعطونا إياه يفوق ما يقدمه الأخ لشقيقه»، يقول. ولكن حين اصطحب أحد المتطوعين الأطفال إلى حفل باليه، سارعت بيان في العودة إلى البيت، وسألت والديها الالتحاق بدروس الباليه، ولكنهما لا يرتاحان لزي الرقص هذا اللصيق بالجسد. ودعا الرعاة المتطوعون الأطفال إلى منازلهم ليخبزوا خبز الجنزبيل وإنشاد ترانيم العيد. ولكن هل يعني قبول مثل هذه الزيارة الاحتفال بعيد مسيحي؟ «فنظام الرعاية الكندي ينفخ في التوتر بين الشرق والغرب»، يقول سام نمورا، وهو محام سوري - كندي في كالغاري، ألبيرتا. وشدّ آل عبدالله محمد الرحال من سورية إلى الأردن لحماية أولادهما، ولكن ما وجدوه في انتظارهم في كندا أثار حيرتهم، وشغلتهم أسئلة مثل: لماذا يسمح للمراهقين البقاء في الخارج إلى ما بعد منتصف الليل؟ وهل يرحل الأطفال عن منزل الأسرة حين يبلغون الرشد وما أشكال سلطة الأهل على الأولاد وما قدر سيطرتهم عليهم؟ «ويومياً، أعيش هذه المعضلات، هل ما أسمح به للأولاد هو الصواب؟»، يسأل عبدالله محمد.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم، تصدرت أولويات لائحة تمنيات بيان المشاركة في رحلة مدرسية تدوم 3 أيام مع المبيت في الخارج شأن أبناء صفها جميعهم الذين سيسافرون إلى جزيرة من مرفأ تورونتو، ويجرون اختبارات علمية وينامون في منامات الطلاب. «أريد الذهاب، ولكن والدي رفض، ويحزنني أنني لن أذهب، على خلاف أصدقائي»، تقول بيان وهي تتناول الغداء في البيت. فوالداها يشعران أن أولادهما ينتميان إلى المنزل وداخله، ولم يسبق لأي من الأولاد المبيت في الخارج. وطلب بيان المشاركة في الرحلة مهذب قياساً إلى المعايير الكندية أو الأميركية. فهي لم توجه اتهامات إلى أهلها ولم تعلن الاستياء ورفض القرار، شأن أقرانها في هذا الجزء من العالم. ولكن يفترض بالأبناء والبنات، ولو بلغوا سن الرشد، في سورية احترام سلطة الوالدين. وهذا ما درجت عليه أسرة آل عبدالله محمد طوال أجيال. ولكن بعد أشهر من الوصول إلى كندا، وقع على والديّ بيان وقع الصدمة مبادرتها إلى مساءلة قراراتهما. «اليوم صارت أقوى. هنا، تحاول التعبير عن نفسها أكثر مما كانت تفعل في سورية»، تقول والدتها. ولم يفت بيان أن ثمة حليفاً لها على مائدة الغداء، ولو كان حضوره خفراً: كيري ماكلورغ، وهي من تتولى تنظيم مجموعة الرعاية. وماكلورغ لم تشأ الضغط على والديّ بيان، وحين يسألانها نصيحتها، تميل إلى أجوبة موزونة لا تظهر ما تستسيغه. ولكنها لاحظت أن بيان تتوق إلى المغامرة. ورأت، شأن غيرها من الرعاة، أن الرحلة هي خطوة على طريق اندماجها في المجتمع الكندي. فولديّ ماكلورغ سبق لهما المشاركة في مثل هذه الرحلة قبل سنوات، وإلى اليوم يتكلمان عن تقاليد الرحلة: زيارة المنارة ورواية قصص الأشباح. «كل ولد في تورونتو يذهب إلى هذه الرحلة. فأكاديمياً الرحلة غير مهمة، ولكنها اجتماعياً بالغة الأهمية»، أجابت ماكلورغ أهل بيان. ولكن والد بيان كرر رفضه. فهو ليس مهاجراً مستعداً للتكيف مع العالم الجديد، بل هو لاجئ يسعى إلى التمسك بما انتزع منه. «نحن سعداء هنا، ولكن لم نأت طواعية»، يقول. فهو يرغب في الحفاظ على الهوية التي أرادها لابنته. ولكنه قال:» سأفعل بعون الله ذلك من أجلها (القبول بالرحلة)، ليكن الله في عوننا».
وأقبلت بيان على الحياة في كندا، ولكنها تقول إنها لم تتخيل يوماً، ما وجدت الأسر والعائلات الكندية عليه: التنوّع والطلاق وانفصال الوالدين في السكن. «أمي وأبي لن يفعلا مثل هذا أبداً»، تقول. وأسرتها قادمة من بلدة محافظة في درعا. وزواج والديها دبرته عائلتاهما، وكانا يسيران على هدي مبادئ واضحة. فإيمان في السادسة والثلاثين من العمر، ولا تترك المنزل من غير إذن زوجها. والنساء في القرية لا يسمح لهن بالقيادة. ولكن زوجها وافق على عملها في التمريض، على خلاف نساء كثيرات يتركن العمل حين الإنجاب. واستقرارها في كندا يفوق استقرار زوجها. فهي حين ارتادت مسرحية راقصة، اعترتها الدهشة والمفاجأة. وحين رفض زوجها، وهو في مثل سنها، فرصة عمل في سوبرماركت لأنه لا يعرف ما ينتظره هناك، قالت مازحة إنها ستتقدم هي للوظيفة. وهي تسعى إلى حيازة شهادة رسمية في التمريض في كندا، ولو اقتضى الأمر أعواماً من دراسة لغة جديدة واكتساب مهارات جديدة والتزام تعليمات مختلفة وحضور محاضرات جديدة.
ووجدت والدة بيان ما تصبو إليه: المساهمة في رئاسة مجموعة دعم سوريات في محنة اللجوء والهجرة. وأمام لوح أبيض، تقرأ بصوت عال توجيهات حماسية مثل «لا مستحيل». وهي تقول إن العيش في كندا وفّر لها فرصاً لم تعرف حتى أنها ممكنة أو موجودة. ولكن زوجها يواجه صعوبات. فهو في بلده الأم، كان شريكاً في ملكية متجر وملحمتين، وكان رب المنزل من غير منازع. ولكن اليوم، يشاركه المتطوعون الرعاة في دعم عائلته، شأن المساعدات الحكومية. وحين تذهب زوجته إلى جلسات العلاج الجماعي، وهي تتقاضى 70 دولاراً كندياً مقابل كل جلسة، يجالس الأطفال، ويساعد في أعمال المطبخ. «أحياناً أشعر بالضعف حين أقوم بهذه الأعمال، فهي أعمال نسائية»، يقول عبدالله محمد. وعلقت بيان آمالها على أبيها، فهي أرادت أن يتعلم السباحة والقيادة، وشراء سيارة بستة مقاعد. ولكنه لم يستطع العثور على عمل يكفي لتأمين معيشة أسرة من 6 أشخاص في مدينة باهظة الأسعار. ومهارات زوجته اللغوية تفوق مهاراته، وفي كثير من المرات، يُهمش دوره في الحديث حين تتولى هي زمام الكلام. (وأسرة بيان طلبت التستر على اسمها الكامل مخافة أن يواجه أقاربها في سورية القصاص والعيب). وإذا عادت الأمور في سورية إلى سويتها، يقول والد الأسرة إنهم سيعودون. ولكن زوجته تقول إن مستقبلها ومستقبل أولادها في كندا. فيضحكان. وهما لا يغفلان أن زواجهما المدبر يواجه صعوبات كبيرة في هذه التربة الجديدة. وجلسات العلاج مليئة بنساء يقلن إن أزواجهن يشعرون بالمرارة من تغير الأحوال، وصار في وسع كثيرات منهن الإبلاغ عن سنوات من العنف الأسري.
وفي وقت تتوق إيمان إلى الفرص الجديدة، ليست على ثقة من قدر الحرية التي ترغب في أن تتمتع بها ابنتها. ففي سورية، مسار الحياة مقيد ولكنه واضح. ولو لم تندلع الحرب في سورية، لكانت بيان اليوم تستر شعرها. والفتيات في قريتها يتزوجن في الرابعة عشرة من العمر أو الخامسة عشرة. وتشعر إيمان أن جعبتها خاوية في كندا من خريطة ترسم وجهة حياة ابنتها. وحين أقبلت بيان على الاحتفال بعيد هالوويين، شرحت لأمها معناه: الشعور بالخوف على منوال مسلٍ وارتداء ثياب الأشباح والهياكل العظمية. ولكن إيمان احتارت. فهي هربت من الموت والرعب في الواقع، وتتساءل من أين لأولادها الاحتفال بهما، وهل ثمة ما يحتفل به.
نقلا عن الحياة