العلاج بالصدمة لاسترداد حقوق النساء

كتب: نقلا عن الحياة اللندنية

فى: مقالات مختارة

21:08 22 ديسمبر 2016

تبدو معالم علاجية جديدة وسبل تداخلية فريدة ومؤشرات فكرية غريبة في سماء مصر هذه الأيام، في ما يتعلّق بوضعية المرأة. فبعد عقود عاشت فيها كائناً طبيعياً، حتى وإن كانت تشكو سلباً لحقوق عامة وقهراً من باب حمايتها والحفاظ عليها، لكنها أبداً لم يتم التعامل معها باعتبارها آلة للجنس، أو وعاء إنجابياً أو شيئاً لا عقل له.

 

تلتها سنوات في تاريخها الحديث احتكرت فيه السيدات الأول عمليات تمكين النساء وفتح صنابير الأحوال الشخصية ومقاليد المناصب الرسمية ومحاذير ومعايير القيم المجتمعية وإغلاقها، وجدت المرأة المصرية نفسها مشتتة الحقوق غير واثقة مما ينبغي عليها فعله أو المطالبة به أو السكوت عنه.

 

سكت المجتمع المصري على مدى أكثر من ثلاثة عقود على عمليات استلاب متناقضة للمرأة. فنظام الحكم اعتبر حقوق المرأة المعترف بها هي ما تقنع به «سيدة مصر الأولى»، فتسخّر المؤسسات الرسمية وتدشّن الجمعيات المعنية وتوجّه الشخصيات الحيوية لتتبنّى القضية.
وعلى رغم أهمية قضايا عدة ومحوريتها التي تبناها نظام الرئيس السابق حسني مبارك، مثل قوانين الحقوق الشخصية ومناهضة الختان ومواجهة العنف ضد المرأة، إلا أن الخطط جاءت من أعلى المجتمع ولم تتمكّن من منافسة الدولة الأخرى الناشئة في القرى والنجوع والأحياء الشعبية، حيث يوجد خطاب ديني يقول العكس تماماً. وكانت النتيجة تبدد جانب كبير من هذه الجهود وتلك الحملات عقب ثورة «نياير 2011» وكأنها لم تكن.

 

حتى الجمعيات النسوية ومنظمات المجتمع المدني التي عملت لسنوات طويلة في مجالات تتعلّق بحقوق المرأة وجدت نفسها بين شقي رحا في السنوات القليلة الماضية. فمن جهة، اتهمتها الدولة في مناسبات عدة بالعمالة وقبول التمويل من الخارج لتفعيل أجندات أجنبية (ضمن منظمات مجتمع مدني عدة تعمل في ملفات مختلفة)، ومن جهة أخرى، انقسم المصريون أنفسهم في موقفهم منها. فريق مؤيد للدولة وداعم للنظام اعتبر الجمعيات «عملية وخائنة»، وآخر معارض لأسباب تتعلّق بانتماءات ســـياسية ذات رداءات دينية مغايرة جاهر بعدائه للجمعيات باعتبارها جاءت لتعصف بالدين الإسلامي وتهز أركانه وتدفع المرأة للتعرّي والتخلّي عن القيود المفروضة عليها باسم الشرع.

 

ومع انشغال الدولة في أزمات اقتصادية خانقة، وتعقيدات سياسية خارجية مكبّلة، وألعاب إقليمية ودولية عدة وجدت المرأة المصرية نفسها من دون داعم أو مساند أو مدافع، لا سيما في القضايا التي تعتبرها القاعدة الشعبية «فرعية أو هامشية أو على سبيل الرفاهية».
ليست من الأولويات

 

حديث ودي جمع مجموعة من عاملات النظافة في نادٍ رياضي راقٍ في القاهرة دار حول فقرات شاهدنها في برامج «توك شو» خلال الليلة السابقة تتعلّق كلها بمناهضة العنف ضد المرأة. وعلى رغم تأليب مواجه بعضهن ممن تطرقن إلى قصص شبيهة لتلك المعروضة في تقارير، حيث ضرب مبرح من زوج من دون مبرر، أو إجبار على زواج من أهل من دون قبول، أو تحرّشات يتعرضن لها بينما يتنفسن، إلا أن نبرة تقليل من قيمة التقارير سادت في حديثهن. «لما نجد حاجاتنا من السكر والزيت والرز ويتبقى لدينا وقت من الممكن أن نتحدّث عن حكاية العنف هذه»، قالت إحداهن لترد عليها زميلتها مستنكرة لأن «العنف الذي يتحدّث عنه الإعلام ليس عنفاً.

فتأديب الزوج لزوجته، أو تهذيب الأخ لأخته، أو تقويم الأب لابنته منصوص عليه دينياً والاعتراض عليه فيه خروج على الموروثات».

 

وانقسم الجميع بين مؤيدة ومعارضة، ومدللة على رفض الطرح لأن «حواء مخلوقة من ضلع أعوج»، ومبرهنة على صحته والدليل أن جميعهن يقمن بدور «رب الأسرة» حيث يتكفلن ببيوتهن مادياً حتى في ظل وجود ذكور.

 

ذكر كلمة «العنف ضد المرأة» في مصر، حتى في المدن الكبرى والحضر، يثير حساسيات ثقافية ودينية ومجتمعية. وعلى رغم ميل المصريين إلى الشكوى من كل شيء وأي شيء في تفاصيل الحياة اليومية، إلا أن شؤون النساء ومتاعبهن وأزماتهن تبقى ممنوعة من التعبير. هذا المنع يتراوح في أسبابه بين «هذه خصوصيات لا يصح طرحها في العلن» و «ما هو جوزي ومن حقه يضربني» و «البنت التي يتحرّشون بها أكيد لبسها غير محترم أو أخلاقها غير قويــمة».

 

لذلك ومنذ استهلت مؤسسات وجامعات عدة فاعليات الأيام الـ16 لمناهضة العنف ضد المرأة (الحملة التي أطلقتها الأمم المتحدة من 20 تشرين الثاني (نوفمبر) إلى 10 كانون الأول (ديسمبر) وقطاع عريض من المصريات ينظر إلى هذه الأنشطة بعين ملؤها عدم الفهم أو قلة الاكتراث.

 

ضحية أم مسؤولة

 

لكن يظل هناك من يكترث. نهى السيد (20 سنة) شاركت في عدد من الفاعليات الجامعية لرفع وعي المجتمع الطالبي حول التحرّش باعتباره شكلاً من أشكال العنف. تقول: «رفعت رسماً كاريكاتورياً يوضح أن أي أنثى سواء كانت ترتدي ملابس كاشفة أو محتشمة أو محجبة أو حتى منقبة تتعرّض للتحرّش. وصديقتي رفعت شعاراً مكتوباً عليه «التحرّش عنف»، وجدت أن طلاباً كثراً صدموا بالكلمات والرسوم.

بعضهم اعترض على الفكرة من منطلق أن التحرّش مسؤولية الفتاة، وآخرون رأوا أن هناك مشكلات أخرى أكثر آنية وأن التحرّش مسألة تافهة. لكن الغالبية، حتى الطالبات اللاتي لا يجاهرن بتعرّضهن للتحرّش، تضامنَّ مع المسيرة وشجعنَها».

 

وتعلّق السيد مضيفة: «يبدو أن على المصرية أن تحصل على حقوقها بأسلوب الصدمة. فلن يشعر أحد بما تشعر به حين يُتحرّش بها، أو تضرب، أو تجبر على الزواج. وحيث إن الطرق الأخرى لم تعد تجدي في المجتمع، علينا أن نجرّب أسلوب الصدمة».

 

صدمة من نوع آخر كان المارة في شوارع وسط القاهرة على موعد معها. فعلى مدار العقود الثلاثة الماضية تحوّل الفستان لغير المحجبة إلى عجيبة من عجائب الدنيا السبع، وسبباً ليس فقط للتحرّش بل للسب والشتم والاتهام بالخروج على الأخلاق أو إشاعة الفسق والفجور. فقد فوجئ المارة بمجموعة من السيدات والفتيات يسرن في شوارع «وسط البلد» وجميعهن يرتدين فساتين.

 

الدعوة التي حملت عنوان «فستان زمان والشارع كان أمان» وجدت ترحيباً لدى سيدات وشابات تقابلن في نقطة التجمّع وسرن معاً. الطريف أن الصدمة الشديدة على وجوه المارة منعتهم من التعليق أو التحرّش. إلا أن نظرات العيون كانت أبلغ من آلاف الكلمات. تحرّش مشوب بالقلق، وغضب مشوب بالشهوة، وكبت مغلّف بالحرمان. لكن تظل صدمة المشهد الذي اختفى من شوارع العاصمة منذ عقود سيدة الموقف.

 

لكن تعليقات وردت على المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي عكست السائد في المجتمع بما يتعلّق بحقوق النساء. غالبية التعليقات لم تخرج عن إطار «أين أزواج وآباء وأشقاء هؤلاء النسوة ليسحبونهن من الشوارع؟» أو «هل هذا هو ما يمنع التحرّش؟ إن هذا هو عين التحرش» و «عيب عليكن منك لها» مع قليل من التعليقات بعضها بالإنكليزية تشجع النساء والفتيات على استراداد حقوقهن التي سلبتها منهن سنوات التغييب، حتى وإن كان ذلك بصدمة الناس.


لكن الغالبية من الجنسين لا تزال تعتبر مثل هذه القضايا هامشــية وسطحية مقارنة بمشكلات الحياة اليومية من مأكل وملبس وعلاج. كما تظل هناك فــئة ترى في صوت المرأة وضلوعها في الحياة العامة وصمة للمجتمع المتديّن وعاراً على الثقافة الذكورية. 

 

أمينة خيري 

اعلان