اقتصاد مصر بين مطرقة اليوان وسندان التعويم
شهد العام الماضي تحولًا في الأمور الاقتصادية العامة، ابتداءً بالهزة العنيفة التي ضربت الاتحاد الأوروبي بانفصال بريطانيا عنه، وانتهاء بفوز ترامب، وتخللها في المنتصف كثير من الأحداث المهمة، وعلى رأسها انضمام اليوان الصيني إلى سلة العملات، كل هذه الأحداث كفيلة لتحدِث اضطرابات شديدة في سعر الصرف للعملات بشكل عالمي.
نضيف إلى ذلك الاضطراب الذي تشهده مصر اقتصاديًّا بسبب التضخم والتعويم منذ نوفمبر الماضي، ما يجعل من توقع استقرار العملات كذي قبل أمراً شديد الصعوبة؛ نظرًا لزيادة التعقيدات الاقتصادية في العالم ككل.
فالجنيه الإسترليني أصابته هزة عنيفة بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والدولار مازال مضطربًا بانتظار الإعلان عن سياسة ترامب النقدية، التي لم يتضح منها سوى إبقاء مديرة الفيدرالي في موقعها حتى نهاية مدتها، وهو أمر لا يمكن اعتباره منفردًا في سعر الدولار وتحديد قيمته الذاتية، التي قد تختلف كثيرًا في حجم التعاملات الاقتصادية المصرية.
فنظرة ترامب العامة وتصريحاته عن التوجه للبنية التحتية الداخلية قد تنبئ بخطوط عريضة بأن سعر صرف الدولار سوف يقل نسبيًّا، ولكن كل أمور ترامب وأمريكا لا تعتبر محسومة، ولن تفيد في العلاج الجذري للأزمة الاقتصادية في مصر.
وما يحدث من قروض واتفاقيات حتى الآن هي مسكنات قريبة المدى ومتوسطة المدى، لن يدفع ثمنها سوى الأجيال القادمة، وأهم محاولات التعافي هي اتفاقية «الجنيه اليوان»، وعلاقات مصر والصين لم تبدأ بالاتفاقية.
مصر والصين
فحجم التبادل التجاري بين مصر والصين يبلغ ما يقرب من 9.6 مليار دولار، وفى إحصائيات أخرى تجاوز 11 مليار دولار، ولكن حجم صادرات مصر من هذا التبادل لا يتجاوز ربع مليار دولار، وبالتالي فالواردات لها نصيب الأسد، مما يعني أنه على البنك المركزي توفير 11 مليار دولار سنويًّا تقريبًا لصالح التجار ومستوردي البضائع الصينية، التى بمجملها هي بضائع استهلاكية لا تدخل في دائرة التنمية الاقتصادية، إلا فيما ندر.
تستغل الصين الأحداث الاقتصادية العالمية الجارية لتسويق عملتها التي دخلت السلة حديثًا من خلال اتفاقيات دولية عدة
الصين هي الرابح الأكبر في كل ما يدور الآن، فهذا توقيت مناسب جدًّا لتسويق عملتها التي دخلت سلة العملات حديثًا، وتستغل الاضطرابات الاقتصادية العالمية لصالحها، كما أعلنت تونس عن دخول اليوان في احتياطيها النقدي، إلى جانب اتفاقيات صينية سعودية تلوح في الأفق، والتنين الصيني يجوب العالم ليصطاد المزيد من الفرص ويفرض شروطه.
فقد يشترط على مصر اشتراطات تخص عبور سفن صينية قناة السويس، أو تسهيلات في شراء أراضٍ وغيرها، فالصين دخلت هذا الاتفاق رابحة من كل الجوانب. بينما خطوات مصر مازالت غير محسومة من الاستفادة القصوى من مثل هذا الاتفاق، أو ربما لم يعلن بعد عما يبشر بتغيير جذري في الخارطة الاقتصادية المصرية بخطط جادة، وجذب استثمارات صينية حقيقية تدخل في الإنتاج والصناعة، وليس مجرد حل مؤقت للمستوردين.
عقد الاتفاقية يعني ببساطة توفير ما يقرب من هذا المبلغ باليوان، وبالتالي حركه أكثر سلاسة في السيولة النقدية الخاصة بعمليات الاستيراد، وحصول المستوردين على اليوان بسهولة أكثر من الدولار، وهذا بالطبع كعملية إجرائية سيجعل أمور الاستيراد أكثر سلاسة عن الشهور الماضية التي كان يعتمد فيها التجار على السوق السوداء لتوفير الدولار، ولكن لم يحسم بعد أثر الاتفاقية على الأسعار.
ومع توقيع اتفاقيات تفاهم خاصة ببناء العاصمة الإدارية الجديدة مع شركات صينية جديدة، ما يعني أيضًا أن المبالغ المقرر دفعها بالدولار للشركة سيتم دفعها باليوان، مما يوفر الدولار بشكل أكبر فيما يخص تمويل المشروع.
ولكن هل ستسهم هذه الإجراءات في التنمية أو التعافي الاقتصادي؟
احتماليات التعافي الاقتصادي
التعافي الاقتصادي يحتاج إلى استثمار، والواردات الصينية مازالت في نطاق الواردات الاستهلاكية، لا تأتي لاستكمال تصنيع أو غيره، حتى تدخل في إطار التنمية والتعافي الاقتصادي، كما أن العاصمة الإدارية تعتبر مشروعًا خدميًّا لن يدر أي عائد مادي أو تنموي، وبالتالي يجب أن تكون الاتفاقية في إطار آخر، وهو تشجيع الاستثمار الصيني في مصر .
الصين تستثمر حاليًّا ما يقرب من 70 مليار دولار سنويًّا خارج الأراضي الصينية، وحتى الآن لا يوجد أي اتفاقيات واضحة، أو حتى مذكرات تفاهم بشأن جذب الاستثمارات الصينية إلى مصر، فيما أعلنت الصين أنه بحلول عام 2020 ستكون ضخت ما يقرب من تريليون دولار للاستثمار بالخارج.
بمجرد أن تبدأ الاستثمارات الصينية مشروعاتها في مصر ستزداد الاستثمارات الاجنبية في البلاد مما ينبأ بالتعافي الاقتصادي
لم تتضح أي رؤية جادة للحكومة ووزارة الاستثمار لجذب الاستثمارات الصينية الإنتاجية إلى مصر، التي يجب أن تخطط للحصول على حصة جيدة من هذا المبلغ، وعمل دراسات للمشاريع الإنمائية والاقتصادية قد يكون له أثر واضح في الرؤية الاقتصادية لمصر على المدى البعيد وجذب مزيد من الاستثمارات واتضاح رؤية حقيقية للتعافي.
وسيكون مطمئنًا للمستثمرين من باقي الجنسيات أنه يوجد حجم استثمارات جيد في البلاد، وهو ما يؤكد استقرار البلاد اقتصاديًّا وأمنيًّا، وهو السبب الرئيسي لتهرب المستثمرين في الوقت الراهن وتحويل استثماراتهم إلى بلاد أخرى، وبمجرد أن تبدأ الاستثمارات الصينية في إنشاء بعض المشروعات ستكون رسالة تعافٍ واضحة لباقي المستثمرين الأجانب الذين سيدرون بدورهم عملات الدولار واليورو، ويضيفون مزيدًا من التنمية والتعافي في الاقتصاد المصري، فالدائرة تبدأ بالصين من أجل جذب المزيد من المستثمرين.
فتعافي مصر الاقتصادي الشامل لا يأتي إلا بخطة إصلاحية محكمة تحتوي على الكثير من الاستثمارات ودورات الإنتاج الكاملة والشاملة، وذلك كان من أهم ما ذكر في حلول الخروج من هذه الأزمة، هو تعويم الجنيه.
التعويم شر لابد منه
كان من الممكن الاستفادة بشكل أكبر من الاتفاقية المشتركة، إذا كانت تمت قبل التعويم، فكان من الممكن الاستفادة بفرق العملة، حيث ستحصل مصر على المواد الخام في هذه الحالة بسعرها العام والطبيعي في العالم دون تحمل زيادة سعر الدولار الرسمي وغير الرسمي، وستخفف العبء على الدولار بشكل أكبر، ولكن كان هذا أمرًا يصعب تنفيذه؛ لأنه طبقًا لخبراء كان هذا سيسبب خسارة للصين، وهذا الإجراء كان لابد منه من أجل تنفيذ الاتفاقية.
فعلى ما يبدو أن كل ما قدم لمصر من مساعدات واتفاقيات وقروض كان مرهونًا بالتعويم، وذلك ضروري للمستثمرين أنفسهم؛ لتحقيق دراسات جدوى في ظل أسعار عادلة وحقيقية، وليس بناء على قفزات وإخفاقات غير محسوبة.
ومع ذلك كان من الممكن أن يكون التعويم في صورة أقل قسوة، فأزمة نقص الدواء والسلع الرئيسية كان من الممكن تخفيفها بتوفير مخزون جيد قبل الإعلان عن قرار التعويم ما يجنبنا الوقوع في أزمة سلع رئيسية مفاجئة أو دواء.
وعلى الرغم من ارتفاع سعر الفائدة في البنوك للشهادات التي أُصدرت، فإن هذا لم يجارِ التضخم وزيادة الأسعار التي تحدث في السوق المصرية، والتي بدورها تحتاج إلى ضبط أسعار الصرف الحقيقية، حتى تنضبط، وبعض التعديلات الجذرية في السياسة النقدية، فهل ستلعب الاتفاقية دورًا في القدرة الشرائية للجنيه.
أثر الاتفاقية على أزمات السوق
لا يوجد سياسة واضحة لضبط الأسعار لصغار التجار، ولذلك لا يمكن توقع إذا ما كان المستهلك النهائي سيجد سعرًا حقيقيًّا وأكثر انضباطًا للسلع الصينية المستوردة أم لا؟
سيحدث بمصر انفراجه طفيفة في السلع التي تستورد من الصين على المدى القصير والمتوسط لتوفير الاتفاقية 6 مليارات دولار لمصر
ولكن نظرًا لأنه كانت هناك أزمة عدم توافر بعض السلع، فقد تنفرج هذه الأزمة، ويظل أمر التسعير غير محسوم مع حالة عدم تقييد صغار التجار بآليات تسعير واضحة.
ومن المؤكد أن هذا سيحدث انفراجة ولو طفيفة في السلع التي لا تستورد من الصين على المدى القصير والمتوسط، فإن الاتفاقية ستوفر سيولة نقدية حوالى 6 مليارات دولار يمكن توجيهها إلى ما هو أكثر أولوية من البضائع الاستهلاكية، غير أنها كانت ضرورية كشرط أساسي من شروط بنك النقد الدولي للموافقة على القرض.
هذا إلى جانب توفير المزيد من السيولة، وهذا أمر شديد الضرورة والإلحاح في الوقت الذي يتضاءل فيه حجم الاحتياطي النقدي، ولكن المهم في هذه الحالة ليس توفير السيولة وفقط، بل إلى أين ستتجه تلك السيولة؟ فأموال المساعدات الخليجية تخطت الـ20 مليار دولار كسيولة وكدعم للطاقة، ومع ذلك لأنها لم تستغل الاستغلال الأمثل فلم يزداد الأمر إلا سوءًا.
نقلا عن اضاءات