سنة دونالد ترامب؟
لا يخفى على أحد أن انتخاب دونالد ترامب لتبؤ أهمّ منصب في العالم ولّد مشاعر صدمة وخوف وتوتر، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل أيضاً في أرجاء العالم، وأنّ أقواله وأفعاله منذ لحظة انتخابه أجّجت هذه المشاعر، سيّما أنّه بدأ يملأ حكومته بشخصيّات عسكرية وأصحاب البلايين أمثاله، ممن يشاركونه آراءه عن الضرائب، وأخلاقيات العمل، والهوية الجنسيّة، والإجهاض، إنما يفتقرون إلى الخبرة الجماعيّة في مجال إدارة البيروقراطيات المدنية الكبرى، أو على صعيد التصدّي للتحدّيات التي يفرضها الحزم المتزايد لنظام كلّ من موسكو وبكين.
بالتالي، يبقى أن نرى ما هي الأمور التي ستتغيّر في ما سبق، كون ترامب سيصطدم بالواقع لا محالة ما إن يستلم مقاليد الحكم فعليّاً. على سبيل المثال، من المتوقّع لوعده باستبدال نظام «الرعاية الصحية الميسرة» التي أطلقها الرئيس أوباما بنظام أكثر فعاليّة إنما أقل كلفة، أن يصطدم بمعارضة شعبية واسعة من الديموقراطيين داخل الكونغرس وخارجه.
ومن الأمور التي تثير قدراً مماثلاً من القلق لدى شعوب أوروبا والشرق الأوسط، إعلان ترامب نيته نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، فهذه الخطّة لن تكتفي بوضع حدّ نهائيّ لحل الدولتين، بل ستساهم أيضاً في دعم القوى المؤيّدة لتنظيم «داعش»، وتلك التي تنظر إلى الصراعات المحلية عموماً على أنّها في القسم الأكبر منها حروب ذات خلفيّة حضارية أو دينية.
إلاّ أنّ الحذر واجب حيال ما سبق، لا سيّما أنّ القلق إزاء ترامب ناتج بمعظمه عن تكهّنات، ولا يستند إلى أيّ تصريحات جازمة بشأن السياسات التي سيعتمدها. كما أنّه في العالم الثلاثي، أو حتّى الرباعي الأقطاب، إذا أضفنا أوروبا إلى الولايات المتحدة وروسيا والصين، يبقى السؤال مفتوحاً حول حجم التأثير الفعلي للشرق الأوسط الذي يشهد انخفاضاً في أسعار النفط، والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الذي يمر بحالة خمول، في مفهوم ترامب للمصالح الحيوية الأميركيّة.
وسط ظروف كهذه، قد يقوم الحل الأنسب على طرح عدد من السيناريوات المحتملة للشرق الأوسط، بما يشمل فرض عددٍ من «الخطوط الحمر» سيؤدّي انتهاكها حتماً إلى تداعيات عنيفة، وتشمل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، مروراً بأيّ محاولة لتغيير طبيعة العلاقات مع إيران. لكنّ لا بدّ من الإشارة أيضاً، في هذا الإطار، إلى أنه بعد الانتهاء من تقييم التهديدات والمخاطر، سيكون الرئيس الجديد وفريق عمله قد اطّلعوا جيّداً على المخاطر المحتملة من مستشاريهم، ومن بعض السفراء العرب الأكثر نفوذاً الذين يتواجدون الآن في واشنطن، بدءاً بالسفير المصري، الذي يمثل دولة يرتبط بها إلى حدّ كبير نجاح حرب ترامب المقترَحة على تنظيم «داعش».
يمكن أن تكون هناك أهمية كبرى أيضاً لعنصرين إيجابيين آخرين، أولهما أن مصالح مؤسسات نافذة في واشنطن أصبحت على المحك، بما يشمل مثلاً الجيش الأميركي التائق لزيادة إنفاقه على الأسلحة التقليديّة، والذي يجب أن تشمل جهوده مواجهة التوسّع العسكري الروسي. أما العنصر الثاني، فهو الدعم الحيوي الذي يقدّمه فيلق القوات البرية الأميركي الهندسي لدعم سد الموصل، الذي يُعَدّ حالياً حاجزاً غير ثابت لمنع فيضان مجمل الأنهار العراقية تقريباً، في حال كانت الأمطار الربيعيّة أكثر غزارةً من العادة خلال هذه السنة.
أما النقطة الأخيرة فتتعلق بطباع ترامب وشخصيّته، عمره، وبنيته، ومزاجه... إلخ، وهي على أقل تقدير عوامل قد تحصر رئاسته بولاية واحدة فقط لأربع سنوات. ومع أنّ ترامب ظاهريّاً بصحة جيّدة ويمارس عادات سليمة، لكنه يبدو بديناً إلى حدّ ما، ويكاد لا يمارس أيّ تمارين رياضية. وعند بلوغه سن السبعين، سيصبح أكبر الرؤساء سنّاً في التاريخ الأميركي الحديث، ولن يكون قادراً على التركيز إلا لوقت قصير، متى اضطرّ إلى قراءة أي نص غير الموجزات القصيرة، أو أراد الاستماع إلى جلسات نقاش مطوّلة، أو رغب في مواكبة المناسبات الوطنية والدولية على نطاق يتخطى العناوين الرئيسية والتغريدات. ومع أنّه من غير المهين أن يبدي رئيس استعداده لتفويض مهماته، قد يكون لجميع العوامل السابقة دور في اتخاذ قرار حول ما إذا كان يجدر بترامب السعي للفوز بولاية ثانية في العام 2020.
تكثر الأمور التي يمكن الكلام عنها مسبقاً، وهذا مشروع، لكن كما هو الأمر بالنسبة إلى عدد كبير من الأمور في التجربة البشرية، قد لا نجد الخير بمقدار ما نأمل، أو لا نواجه الشر بمقدار ما نخشى في أكثر الأوقات ظلمةً. وبالطبع، يمكن فعل الكثير للحد من المخاوف التي تنتابنا إزاء رئاسة ترامب، كأن يبدأ الديموقراطيون بصياغة تشريح مفصّل لترشيح هيلاري كلينتون وحملتها الرئاسية، وأن يشرعوا في اختيار خلف لها يكون أكثر قدرةً على الفوز. وفي حال كان هذا الأخير (أو كانت هذه الأخيرة) أكثر اطّلاعاً على واقع الأمور، وذات نظرةً أكثر اتزاناً بشأن سياسة الشرق الأوسط، فسيكون ذلك مكسباً. لكن بالنظر إلى القبضة المحكمة التي تمارسها الصهيونية في الولايات المتحدة عموماً، قد يبدو هذا الأمر مستبعَداً، حتى بالنسبة إلى بيرني ساندرز.
في النهاية، نذكر مقولة شهيرة تفيد بأنّ الحذر الأبدي هو الثمن المدفوع مقابل الحرّية. وبالتالي، لا بدّ أن نراقب عن كثب مدى استعداد ترامب لخرق القواعد السائدة، ولتعيين أفراد من أسرته كمستشارين رسميين له، إذا أردنا تجنّب ظهور رئاسة «إمبريالية» تميل نحو تفضيل مصالح نخبة صغيرة جدّاً من المميّزين.
* أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
نقلا عن الحياة