اليهود ونيابة القدس في وثائق الجنيزة والحرم القدسي
«اليهود ونيابة القدس من خلال وثائق الجنيزة ووثائق الحرم القدسي»، عنوان كتاب صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، للباحثة منال عمارة، يلقي الضوء على الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لليهود في نيابة القدس من 1375 إلى 1589، أي أواخر عصر المماليك البحرية، مروراً بعصر المماليك البرجية أو الشراكسة، وصولاً إلى العصر العثماني.
تتكئ الدراسة على وثائق الجنيزة المتمثلة في العقود والوصايا والمراسلات الشخصية ليهود مصر والشام في العصر الوسيط، وتنسب إلى المكان الذي اكتشفت فيه سواء أكان معبداً أم مقبرة يهودية، ومعناها بالمصطلح الآرامي كنوز المحفوظات، وبالعبرية تعني المستودع أو الكتابات المطروحة. كما استعانت الباحثة بوثائق الحرم القدسي التي تضم حججاً شرعية ومراسيم سلطانية تفصيلية ودقيقة تحكي تاريخ سكان مدينة القدس جميعهم وحاراتها وعمائرها وأوقافها وأملاك أهلها. وضمت نيابة القدس في تلك الفترة كلاً من بيت المقدس والرملة واللد والخليل وقاقون ونابلس وعسقلان وغزة ويافا وأريحا وسبسطية.
وكشفت الدراسة أن الوجود اليهودي في تلك المنطقة كان محدوداً في الفترة المملوكية، ثم ازداد بنسب متفاوتة في الفترة العثمانية، وتعددت عناصر اليهود السكانية في مناطق النيابة؛ فكان منهم المغاربة والإيطاليون والفرنسيون، ومنهم من جاء من طرابلس وطرطوس وكردستان والأندلس وإسبانيا والبرتغال ومالطة وألمانيا، لذا اصطلح الباحثون على تقسيمهم بحسب عناصرهم السكانية إلى السفارد «يهود الشرق»، والأشكيناز «يهود الغرب». كما أنه لم يكن لعناصر يهود نيابة القدس عموماً أثر واضح في الحياة السياسية، واكتفى سلاطين المماليك بالاستعانة ببعض اليهود المغاربة، خصوصاً في أعمال الترجمة أو السفارة السياسية. وكشفت الباحثة عن مهاجمة كتّاب اليهود المماليك بدعوى الإساءة إلى أهل الذمة، مع أن الواقع يؤكد أن الفرمانات التي صدرت ضدهم انطلقت من إثارتهم القلاقل وبذلهم الرشوة لأخذ حقوق غير حقوقهم.
في العصر العثماني اتسعت دائرة الاستعانة باليهود في الوظائف الإدارية، ووجدنا منهم مَن يتولى وظيفة وكيل الخاص السلطاني. ولم تلزم السلطات المملوكية اليهود باحتراف مهن معينة لأنها كانت تطبق سياسة الاقتصاد الحر والحرية المهنية، في ما عدا استثناءات طفيفة ارتبطت ببعض النواحي الشرعية مثل تحريم الخمر ولحم الخنزير. كما أوضحت الدراسة أن النشاط الاقتصادي لليهود لم يكن بالتوسع المعروف عنهم في مختلف المناطق التي عاشوا فيها. كانوا على هامش هذا النشاط، كما وصلوا إلى حالة شديدة من الفقر فاضطروا للاستدانة من جيرانهم المسلمين، كما عجزوا عن دفع الجزية المقررة عليهم، وكثير منهم تهرب من دفعها.
وكشفت الدراسة عن الفكر الاستيطاني المبكر لليهود في تلك المنطقة من خلال خطابات أحد اليهود الأشكيناز ويدعى الرابي (الحاخام) عوبيديا الذي قدم من إيطاليا واتخذ القدس وطناً له عام 1488 حتى توفيَّ عام 1510. هذه الخطابات أسهمت في تغيير مسار يهود فلسطين اجتماعياً وعلمياً وسياسياً، ويؤكد ذلك عدم عودة الرابي مرة أخرى إلى وطنه إيطاليا بهدف إنجاز مهمة معينة في فلسطين، حيث يقول في أحد خطاباته: «أرض الميعاد غدت مهيأة للسكنى وإعادة إعمارها». كان معظم الحجاج اليهود يقومون بزيارة بيت المقدس، ومدينة الخليل وجبل صهيون وما به من أماكن مقدسة عندهم مثل كهف الماكفيلا (المغارة المزدوجة) وقبر إبراهيم، وكان محرماً على اليهود دخول هذه المنطقة، لذا كانوا يصلون أمام نافذة في السور المحيط بالكهف. وكان معظم الحقول والبساتين في مدينة الخليل وقفاً على اليهود، ويتم تقديم الخبز وجميع المأكولات يومياً للحجاج من ريعها. وللأحزان اليهودية طبيعة خاصة ظهرت من خلال رصد مراسم الوفاة، وقد كشفت وثائق الجنيزة عن تسجيل كل يهودي متوفى لوصيته ليضمن ألا تصل أمواله إلى ديوان المواريث الحشرية إن لم يكن له وارث، بل إن بعضهم كان يعمد إلى التزوير، ويظهر نفسه مديناً لأقربائه أو لأي شخص حتى يحفظ أمواله.
وشهدت أوائل العصر المملوكي نهضة علمية ونشاطاً ملحوظاً لليهود، وكان السبب في ذلك قدوم أحد مشاهير المعلمين اليهود ويدعى موسى بن نحمان الذي استقر في فلسطين عام 1267، وأحيا طائفة اليهود في القدس، وبنى مركزاً دينياً باسمه لتلقي التعاليم اليهودية، وأطلق عليه كنيس نحمان. وأعاد نحمان تأسيس الأكاديمية اليهودية (اليشيفاه) في القدس وقامت جماعة اليهود بجمع التبرعات والأموال من المغرب العربي وإسبانيا للإنفاق عليها.
وكان لطبيعة التشتت التي عاشها اليهود في مختلف الأقطار أكبر الأثر في عاداتهم الاجتماعية والتراثية لمجتمع بيت المقدس، فقد تحدثوا لغة هذا المجتمع، واكتسبوا عاداته لدرجة أن «عوبيديا» نفسه انزعج عندما وجد اليهود الذين يحضرون جلساته العلمية ومواعظه السبتية لم تكن اللغة العبرية هي المتداولة بينهم، كما أنهم لم يفهموا محاضراته التي ألقاها بالعبرية فهماً جيداً واكتفوا فقط بالإحساس بها وتذوقها من دون التفاعل معها. فاللغة العربية كانت بالنسبة إليهم لغة الحياة اليومية ولغة العلم والثقافة على حد سواء، وكان لا بد لمن يريد لكتابته الانتشار أن يكتب بها. أما اللغة العبرية فكانت مرتبطة بالتراث الديني اليهودي إلى حد بعيد.
نقلا عن الحياة