التجارة بمسلمي ميانمار
في 22 نيسان (أبريل) 2013، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً عن أعمال العنف التي تعرّض لها مسلمو الروهينغا، وهم مجموعة عرقية تسكن ولاية أراكان في ميانمار، وقد تحدث التقرير في 153 صفحة عن الجرائم التي ارتُكبت بحق الأقلية المسلمة، وحالات القتل والتهجير القسري التي تمت بتغاضٍ وتآمر من جانب سلطات ميانمار وأجهزتها الأمنية، أو بمشاركة من هذه الأجهزة في الجرائم، وذلك بعد تحريض مسبق ومعلن من جانب جماعات بوذية، لم تُتخذ أي إجراءات لوقفه.
ويستخدم التقرير لغة واضحة وقوية في إدانة ما تتعرّض له هذه الأقلية المظلومة، والمأساة المتأتية عن اعتبار الحكومة ومجتمع ميانمار أن الروهينغا مهاجرون غير شرعيين جاؤوا من بنغلادش، وأنهم ليسوا من بين «الأعراق الوطنية»، ويحرمهم ذلك من الاعتراف بهم مواطنين في ميانمار وفقاً للقوانين التي تنظّم شؤون الجنسية. ويقف وراء هذا التمييز الصارخ تاريخ معقد من الصراعات والعنف الذي مارسه حكام ميانمار في فترات مختلفة خلال القرون الماضية ضد مسلمي الروهينغا، وحوادث عنف ومذابح ومحاولات لتدمير الثقافة والمعالم الحضارية الإسلامية، وإكراه الروهينغا على تغيير ديانتهم وثقافتهم.
حمل التقرير المشار إليه عنوان «ليس بوسعكم إلا رفع الشكوى لله: جرائم ضد الإنسانية وأعمال تطهير عرقي ضد الروهينغا المسلمين في ولاية أراكان». وفي العنوان إشارة ضمنية إلى الصعوبة التي تكتنف محاولات إيقاف هذه المأساة، وضعف الأدوات التي يمكن من خلالها ممارسة ضغوط على ميانمار في هذه القضية بالذات، لا سيما أن سجل نظام ميانمار في الانتهاك السافر لحقوق الإنسان هو سجل طويل وحافل، ويضاف إلى ذلك تفشي الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة، ما يذكّي نزعات العنف والتعصب القائمة أصلاً.
إن الغضب مما يتعرّض له الروهينغا المسلمون والتحرك من أجل إيقافه واجب علينا جميعاً، ونحن نرى في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي نماذج لهذا الغضب من أجل إخوتنا في الدين، وصوراً تستثير المشاعر حول وحشية المعتدين وقسوتهم إزاء الضحايا الأبرياء. لكن المؤسف هنا أمور ثلاثة: أولها أن غالبية هذه الصور والقصص المنشورة عن مسلمي ميانمار هي صور وقصص بيّنة التلفيق والكذب، وتنطوي على مبالغات تُفقدها قيمتها وتسيء إلى القضية العادلة، والثاني أن الهدف يكون إثارة أكبر مقدار من الحقد والكراهية والغضب في النفوس، وتصوير الأمر على أنه محض صراع ديني بين الإسلام والبوذية، مع أن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. والأمر الثالث أن السؤال الأكثر أهمية لا يتمّ طرحه، ولا يبدو أن من يديرون هذه الحملات يهتمون به أصلاً، وهو: ما الطريقة التي نحمي بها إخوتنا المستضعفين، ونخفف بها بعض آلامهم، ونحل بها ما أمكن من معضلاتهم الصعبة؟
إن تحليل مضمون الحملات التحريضية التي تتناول قضية مسلمي الروهينغا يوضح أنها تهدف إلى نشر قاعدة أكبر للتعصب الديني، وتشويه طبيعة الصراعات المحلية والعالمية بإسباغ طابع ديني محض عليها خلافاً للحقيقة، وتعميق الكراهية والحقد تجاه الديانات والعقائد الأخرى وأتباعها، وذلك لخدمة أهداف سياسية لجماعات واتجاهات بعينها. وبصيغة أخرى، فإن مأساة مسلمي ميانمار ليست بالنسبة إلى منظمي هذه الحملات سوى مادة للتجارة، وهم لا يهتمون حقيقة بإنقاذ مسلمي بورما، أو تخفيف معاناتهم.
التحرك الفعلي والمثمر لإنقاذ مسلمي ميانمار يحتاج إلى جهود رشيدة ومنسقة، وفتح كل الأبواب للحوار في ظل الافتقار إلى أوراق ضغط على حكومة ميانمار، التي تستند في انتهاكاتها إلى قبول شعبي داخلي كبير، إلى درجة أن أونغ سان سو تشي التي حازت جائزة نوبل للسلام، لم تُبد أي تعاطف مع الروهينغا المسلمين، على رغم أنها حصلت على نوبل من أجل جهودها المتعلقة بالحقوق والحريات.
لقد تصدى فضيلة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر ورئيس مجلس حكماء المسلمين، لهذه المهمة بشجاعة، واستطاع أن يُحدث ثغرة في جدار ميانمار الأصم، ونجح في تنظيم فاعلية غير مسبوقة في القاهرة بعد جهود استمرت أشهراً، تحت عنوان «نحو حوار إنساني حضاري من أجل مواطني ميانمار». وفي هذه الفاعلية اجتمعت وفود شبابية من ميانمار تمثل كل الأديان الموجودة هناك، لإجراء حوار يقرّب المسافات في ما بينها، ومواجهة المشكلات بصراحة ووضوح. وهذا الاجتماع في ذاته نجاح مهم، إذ كانت حكومة ميانمار ترفض مناقشة القضية بأي صورة من الصور.
في كلمته أمام المؤتمر، قال الدكتور أحمد الطيب: «درسنا أن البوذية دين إنسانية في المقام الأول، وأن بوذا كان من أكبر الشخصيات التاريخية الإنسانية، وأن كبار مؤرخي الأديان يصفون رسالته بأنها دين الرحمة»، وهو حديث لا يجانب الصواب، وينطلق من سماحة الإسلام واحترامه العقائد الأخرى، لكن خفافيش التطرف والمتاجرين بالمآسي وأصحاب الأهواء انطلقوا في هجوم محموم على شيخ الأزهر، اشترك فيه سفهاء ومتطرفون من مختلف الدول العربية، لأنهم يكرهون الوسطية والاعتدال والحكمة التي يتسم بها خطاب الدكتور أحمد الطيب، ويتعيشون على إثارة الكراهية وإشعال نار التعصب.
وقادت جماعة «الإخوان المسلمين» عبر فروعها وأذرعها المنتشرة في العالم العربي الهجوم على شيخ الأزهر، في محاولة منها لتصفية حسابات سابقة معه، وانتقاماً من صلابته في مواجهة مخططاتها الخبيثة في أعقاب الربيع العربي، إذ تصدى للجماعة وهي في أوج قوتها، وصمد أمام تهديداتها المعلنة والمبطنة، وأحبط محاولاتها للسيطرة على الأزهر الشريف وتحويله إلى رافعة إضافية لنفوذها. وكان الشيخ أحمد الطيب يخوض معركته هذه انطلاقاً من وعي العالِم المسلم وبصيرة المفكر ومكانته التي تستند إلى إنجازات بحثية أصيلة وعميقة في أصول الفكر الإسلامي، وتجرد عن الأهواء والمنافع، وحفاظ على وسطية الأزهر الشريف واعتداله الذي ميزه طوال تاريخه، انطلاقاً من سماحة الإسلام واحترامه العقائد الأخرى، فالحوار مع الآخر لا بد أن ينطلق من نقاط الالتقاء، وأن يستند إلى المبدأ القرآني العظيم «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم».
لا شك في أن خطوة شيخ الأزهر لا تزال رمزية، لكنها تفتح الطريق إلى جهود أخرى رسمية وشعبية يمكن أن تتوسع وتتضافر لتسفر مع الوقت عن تغير ملموس في ميانمار لمصلحة مسلمي الروهينغا، وهو ما لا يريده رموز التطرف من «الإخوان المسلمين» وداعميهم. وكثرٌ ممن يشاركون في هذه الحملة وغيرها يزعمون أنهم يرفضون ما يقوم به «داعش» وأخواته، لكنهم في الحقيقة يُبطنون له الولاء ويقدمون له إسناداً فكرياً مهماً. وربما يجب أن نوضح هنا أن انتهاكات السلطات في ميانمار تستمد قوة وشرعية داخلية من جرائم الجماعات الإرهابية التي اختطفت الإسلام وأساءت إليه، والتي تتصدر فظائعها نشرات الأخبار في كل مكان من العالم، وتُستغل هذه الجرائم من جانب المتطرفين البوذيين في وصم الروهينغا بالإرهاب.
لا يقدم «الإخوان المسلمون» وأشباههم أي حل لمأساة الروهينغا، ولا يمدون لهم أيديهم بأي نوع من المساعدة، وحين يقيض الله لهؤلاء المنكوبين قامة إسلامية أوتيت من الحكمة والمكانة ما يمكِّنها من تخفيف معاناتهم، كما هو شأن الدكتور أحمد الطيب، فإن سدنة التطرف يستنفرون كل ما أوتوا من قوة للإساءة إليه، مراهنين على أن التدليس والافتراء المغلفيْن بشعارات دينية خداعة سينطليان على الجماهير العربية المسلمة، ويغيب عنهم أن ألاعيبهم وحيلهم قد أصبحت مكشوفة للجميع.
* كاتب إماراتي
نقلا عن الحياة