النموذج الاقتصادي الألماني باهر ... وعلى مفترق طرق
إثر كل انتخابات فرنسية، يزور الرئيس المنتخب برلين لتمديد مهلة تذليل الخلل في الموازنة وتقليص العجز العام بذريعة تحفيز النمو وتوفير فرص عمل. لكن مثل هذه الذريعة لا تقوم لها قائمة في ضوء الأداء الاقتصادي الألماني الإيجابي والبارز. فألمانيا تنتهج منذ 15 عاماً سياسة اقتصادية هي نقيض السياسة الاقتصادية الفرنسية.
ونشر مكتب الإحصاءات الألمانية أرقاماً لافتة: النمو في ألمانيا بلغ 1.9 في المئة في 2016، وفاق التوقعات. والاستهلاك الداخلي كان محرك النمو، وبلغ الفائض في الموازنة 20 بليون دولار، أي 0.6 في المئة من الناتج، على رغم بذل 20 بليون يورو على استقبال مليون لاجئ من سورية.
وتدنت معدلات البطالة الى أدنى مستوياتها منذ توحيد ألمانيا، وبلغت 6 في المئة فحسب. ووفرت برلين 420 ألف فرصة عمل في العام الماضي، ولم يحل تحديد عتبة حد أدنى للرواتب دون تحريك عجلة سوق العمل. وارتفعت الرواتب الخام 1.9 في المئة. فألمانيا مركل (المستشارة الألمانية) وشوبل (وزير المالية) ابتكرت نموذج نمو تكاد البطالة فيه تنعدم.
وركنا النموذج هذا هما المنافسة وعدم الاستدانة. وانخفض معدل الدين فيها - وهو كان في 2010 مساوياً للدين الفرنسي، أي 81 في المئة من الناتج المحلي - الى 68 في المئة من الناتج المحلي، في وقت ارتفع نظيره في فرنسا الى 97.5 في المئة. والمتجول في ألمانيا يلفى علامات الازدهار والبحبوحة.
لكن بعض الغيوم تعكر صفاء السماء الألمانية. وتبرز ثلاث مسائل في وقت لا شك أن زمن فائض القوة الألمانية انقضى: فقدراتها التنافسية العظيمة تتقلص، على وقع رفع الرواتب وسعي منافسيها الأوروبيين الى رفع مستوى قدراتهم التنافسية الاقتصادية. وتمس الحاجة الى انتقال ألمانيا الى العصر الرقمي وموجبات اقتصاده وإلا غامرت بالوقوف موقف المتفرج أمام تقويض عمالقة وادي السيليكون صناعتها التقليدية بواسطة تطبيقات إلكترونية مثل أوبير. والسبيل الى تفادي التقادم هو الاستثمار. لكن ألمانيا تغامر بالتقتير في الإنفاق والاستثمار في الاقتصاد الجديد. فشاغلها هو موازنة أموالها العامة للحؤول دون تهديد قيمة الرواتب التقاعدية للسكان المتقادمين في السن. والمسألة الحاسمة مدارها على استثمار برلين الفائض التجاري في منطقة اليورو.
وساهم هبوط سعر اليورو في زيادة الفائض التجاري الألماني (9 في المئة من الناتج القومي). ودول الجوار تلقي عليه (الفائض الألماني) لائمة تقويض اقتصاداتها. وفي مرحلة تعمّها المشاعر الشعبوية والاحتجاج على العولمة، الخطر فعلي، والحل عسير وقد يقتضي حمل مجتمع متقادم في السن وغير ميسور الحال على الاستهلاك، وهو ما لا عهد له به، أو دعوة شركات الى تقويض قدراتها التنافسية. ويرى الخبير الاقتصادي باتريك أرتو، أن ما تمس إليه الحاجة هو استثمار ألمانيا فوائضها في منطقة اليورو، في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا. فالاستثمارات الألمانية هربت من هذه الدول، إثر أزمة 2011 الرهيبة، التي قوضت الثقة في المصارف وسياسات المالية العامة في دول جنوب أوروبا. وأزمة البنوك في إيطاليا والإحجام عن إرساء إصلاحات في فرنسا هما حجر عثرة في طريق عودة رؤوس الأموال الألمانية.
نقلا عن الحياة