رغيد الصلح يكتب
قبل أن تنجح مشاريع ترحيل الجامعة العربية
منذ أن نشأت جامعة الدول العربية انقسم منتقدوها الى فريقين: فريق قلل من أهميتها الى درجة أنه اعتبرها غير موجودة أصلاً. فهي جامعة بالاسم وعربية باللفظ، كما وصفها احمد الشقيري، أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية.
استطراداً، توصل هذا الفريق الى ان الاهتمام بالجامعة وتعليق الآمال عليها هو نوع من مضيعة للوقت. وفريق آخر لا ينفي وجود الجامعة، ولكنه اعتبر أنها كانت مصدر ضرر كبير للمنطقة ولدولها وشعوبها. بناء على ذلك فقد حبذ زوالها.
وانتشرت هذه الانطباعات والنظرات الى الجامعة العربية انتشاراً واسعاً بين المعنيين بحال المنطقة ومستقبلها، وبخاصة بين الذين لم يعتقدوا بجدوى التنسيق والتضامن بين الدول العربية. في المقابل، رجح أكثر المناصرين لهذه الفكرة، أن الجامعة باقية وأن تطويرها سيظل هدفاً من أهداف السياسة العربية على تنوع الاتجاهات المؤثرة فيها.
حتى تاريخنا الراهن، لبث التوقع الأخير أقرب الى الواقع الحي. أي أن الجامعة ومعها النظام الإقليمي العربي بقيا على قيد الحياة، حتى ولو اصابتهما علل كثيرة. ولكننا اليوم نبدو وقد اقتربنا من لحظة «انعطاف» مهمة في تاريخ المنطقة، وأن الجامعة مرشحة للزوال. ومن المؤكد أن لهذا المسار علاقة مباشرة بالصراعات العربية-العربية وبالصراعات الإقليمية والدولية على الإمساك بمصير المنطقة.
ولكن فضلاً عن ذلك، فإن احتمال رحيل الجامعة والنظام الإقليمي العربي يستند الى جملة فرضيات رافقت تطورهما. وقد لا تكون هناك علاقة مباشرة بين أي قرار ترحيلي للجامعة، وبين الخلفيات التي أثرت على عملها ومواقفها. ولكن تبقى هناك علاقة قوية بين الاثنين حتى ولو كانت غير مباشرة. كذلك تبقى هناك علاقة قوية بين مشروع الترحيل وبين الخلفيات حتى ولو كانت العلاقة غير مؤكدة أيضاً. لذلك فإن التوقف عند هذه العلاقة جدير بأن يسلط الأضواء على الحوافز التي تقف وراء أي مشروع ترحيلي للنظام الاقليمي العربي ولمؤسساته.
من بين الفرضيات الكثيرة التي تشكل خلفية مناسبة في رأي الترحيليين هي العجز المقيم الذي تشكو منه الجامعة. لقد رافق العجز الجامعة منذ نشأتها عام 1945. فلقد أنيط بالجامعة وبأمانتها العامة دور مهم في إدارة الصراع مع الحركة الصهيونية وفي الدفاع عن حقوق عرب فلسطين، ولكن الجامعة لم تتمكن من إنقاذ فلسطين من الاحتلال الاستيطاني.
والحق يقال إن الجامعة لعبت ادواراً مهمة في تحرير الدول العربية، بعد الحرب العالمية الثانية، من انظمة الحماية والانتداب والاستعمار ولكن انجازاتها هنا لم تكفِ لكي تعوض الفشل الذي أصيب به العرب في فلسطين، والذي تحملت الجامعة نصيباً قوياً منه. وفضلاً عن هذا الفشل التاريخي، تكررت فصول العجز والقصور في مجالات كثيرة، عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية من مجالات عمل الجامعة ومؤسسات العمل العربي المشترك.
لا ريب في أن هناك فرقاً بين الآمال التي يعقدها الرأي العام العربي على العمل الجماعي العربي، من جهة، وعلى النتائج التي ترتبت على هذا العمل. ولا ريب في أن الجامعة تتحمل مسؤولية مباشرة على هذا الصعيد. ولكن الفرضية التي نحن بصددها تحمل الجامعة المسؤولية الكاملة على هذا الصعيد في حين أن الجامعة تتحمل قسطاً من هذه المسؤولية وليس كلها. الى جانب الجامعة تتحمل الدول العربية قسطاً كبيراً من مسؤولية قصور وضمور العمل العربي المشترك، كما يؤكد عاملون في الجامعة مثل ناصيف حتي صاحب الخبرة الواسعة في عمل الجامعة والمؤسسات الإقليمية العربية.
يقول حتي في ورقة الى مؤتمر «من أجل إصلاح جامعة الدول العربية» عقد عام 2003 أن أكثر القرارات التي تصدر عن مؤتمرات الجامعة تصبح بعد صدورها «في حالة يتم» وتستقيل الدول العربية من المسؤولية تجاهها حال اختتام أعمال الاجتماع المعين. لذلك يولد القرار في كثير من الحالات ميتاً او مشوهاً او غير قابل للتنفيذ، ويترك على باب جامعة الدول العربية وتحت مسؤوليتها.
الى جانب ملاحظة حتي هذه، يمكننا إضافة ملاحظة مهمة جاءت في مقدمة التقرير الاقتصادي العربي الصادر عام 2012. يرى التقرير الذي يستعرض الأوضاع الاقتصادية العربية بين عامي 2009 و2011 أن الانجازات التي حققتها الدول العربية على طريق التكامل الإقليمي «كانت متواضعة جداً قياساً بالامكانات المتاحة للبلاد العربية». ويعزو التقرير هذه النتائج الى جملة أسباب منها «عقبات اجرائية اساسية تمثلت خصوصاً بالقيود غير الجمركية التي كانت تمارس وتعطل فوائد منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى والعقبات الهيكلية وضعف الربط في البنية التحتية». ولا تشير المقدمة الى الجهة المسؤولة عن هذا القصور، ولكن التقرير يشير بوضوح الى دور الحكومات والادارات العربية على هذا الصعيد، فضلاً عن مسؤولية مؤسسات العمل العربي المشترك على هذا الصعيد.
لئن حملت جامعة الدول العربية مسؤولية تقصير العمل العربي الجماعي، فإنها لا تنال تقديراً خاصاً عندما يحقق الجانب العربي، بحكوماته ومنظماته الاقليمية، انجازات ملموسة. من الممكن الإشارة هنا الى تجارب عدة مهمة شهدت نموذجاً افضل للتعاون بين الحكومات والجامعة مثل تجربة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، والمقاطعة النفطية العربية للدول المؤيدة لإسرائيل خلال حرب اكتوبر ومشروع تحويل الشرق الأوسط الى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
فعلى صعيد المقاطعة الاقتصادية أمكن للجامعة العربية ولمنظماتها المختصة أن تضطلع بدور مهم في تنفيذها، ومن ثم أن تضطلع بدور بارز في هذا الفصل من فصول الصراع مع إسرائيل. وبفضل التعاون المثمر بين الحكومات العربية والجامعة امكن تفعيل وتطوير المقاطعة. وكما جاء في تقرير قدم الى الكونغرس الاميركي خلال عام 2015، فإن المقاطعة باتت تؤثر في إسرائيل. لم يكن التأثير اقتصادياً بالدرجة الأولى لأن التجارة العربية الخارجية لم تكن واسعة، ولكن التأثير كان سياسياً بالدرجة الأولى، كما يقول التقرير.
اضطرت المقاطعة العربية لإسرائيل الادارة الاميركية الى إصدار سلسلة من القوانين والقرارات التي حظرت على الشركات الاميركية والدولية الاستجابة للمقاطعة العربية. وهددت هذه القوانين والقرارات الاميركيين الذين يخالفونها بالعقوبات. هذه التهديدات لم تحظ بالترحيب في الأوساط الأميركية التي ترغب في الحفاظ على علاقات خالية من التعقيدات مع العرب. وهذه سابقة من الممكن العودة اليها في تاريخ العلاقات المثلثة الأميركية-العربية-الإسرائيلية.
كما كان للتعاون بين الجامعة العربية ومنظماتها المختصة الأثر المناسب في أحكام المقاطعة العربية لإسرائيل، فقد كانت للمقاطعة الآثار المشابهة لقرار المقاطعة النفطية للدول التي دعمت اسرائيل إبان حرب اكتوبر 1973. وتبلور القرار في منظمة الاقطار العربية المصدرة للنفط (اوابك)، قبل ان ينقل الى «اوبك» حيث اكتسب طابعاً دولياً وازداد تأثيره وفاعليته على مسار الصراع العربي-الاسرائيلي. فضلاً عن هذا الفصل من فصول الدفاع عن المصالح العربية والإقليمية، فإن الجامعة تلعب دوراً مهماً، بالتنسيق والتعاون مع الحكومات العربية في العمل على تحويل منطقة الشرق الاوسط الى منطقة خالية من اسلحة الدمار الشامل. أن هذا المسعى قد لا يحقق الهدف المطلوب، ولكنه يحقق للعرب كسباً لهم في صراعهم مع اسرائيل، ويسلط الأنظار على مشاريعها وسياساتها في المنطقة، ويساعد على عزلها حتى عن الدول الحليفة لها.
إن قصور الجامعة العربية لا يشكل دافعاً الى ترحيلها بل الى إصلاحها. ولقد تكومت لدى الجامعة على مر السنوات مشاريع إصلاحية عديدة يمكن الأخذ بها، او مراجعتها بقصد استخلاص أفضل المقترحات الواردة فيها، والعمل على تطبيقها. وتستطيع الجامعة العربية الدعوة الى مثل هذه المقاربة. أما إذا أمسكت الجامعة او الامانة العامة عن الاقدام على مثل هذا التحرك، فانه يجدر بالمؤسسات العربية الخاصة مثل الاتحاد العام لغرف التجارة والصناعة والزراعة للبلاد العربية اخذ المبادرة على هذا الصعيد.