خطوة ترامب... نصر صيني وهزيمة يابانية
خطا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خطوة على طريق النزول على وعود حملته الانتخابية وانسحب من اتفاق التجارة مع 12 دولة مشاطئة للهادئ. وإعلان القرار التنفيذي هذا هو أيسر ما في المسألة ومترتباتها البالغة التعقيد، ومنها الطعن في التزامات أميركا الاقتصادية وإحراز الصين مكاسب استراتيجية.
فالاتفاق العابر للهادئ الذي فاوضت عليه إدارة باراك أوباما كان ينازع منذ شن المرشحين الى الرئاسة الأميركية، ترامب وهيلاري كلينتون، حملات عليه. وسعى أوباما الى إقرار الاتفاق في نهاية ولايته، ولكنه أخفق في إقناع الكونغرس، بعد سنوات من إهماله مسائل التجارة.
وكان تسليط أوباما الضوء على أهمية الاتفاق الاستراتيجية لجبه القوة الصينية الناعمة في منطقة المحيط الهادئ، مصيباً وفي محله. ولكنه لم يُبرز منافع الاتفاق الاقتصادية، فوسع ترامب تحويل الاتفاق العابر للهادئ كبش محرقة سياسياً. ولا شك في أن الاتفاق هذا تشوبه شوائب، ولكنه يحمل قيمة إضافية اقتصادية للولايات المتحدة.
ويبدو أن ترامب لا تشغله الاتفاقات المتعددة الاقطاب، على خلاف الصين. فهي ترسي اتفاقاً منافساً للعابر للهادئ، «الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة». ويقبل شطر كبير من الدول الآسيوية على توقيع اتفاق الشراكة هذا، بعد أن رأى أميركا تنسحب. وتبتعد ماليزيا والفليبين وتايلند عن الولايات المتحدة وتتقرب من الصين، وبدأ غيرها من دول المنطقة يتساءل عن الالتزامات الأميركية في منطقة غرب الهادئ.
واقتنص الرئيس الصيني شي جينبينغ الفرصة التي سنحت إثر تلكؤ واشنطن في دعم الاتفاق (قبل رفضه) في دافوس الأسبوع الماضي، وتغنّى بمآثر اتفاقات التجارة الحرة، في وقت تفرض بكين قيوداً تنظيمية وعوائق على حركة الاستيراد الصينية. وهي تدعم إنتاج معدلات فائضة من سلع مثل الفولاذ، فتغرق الأسواق، وتصيب بالضرر المنتجين الأجانب والعمال. وتلجأ الى إجراءات سياسية لتقييد التنافس الأجنبي من أجل الظهور في مظهر «الرائد» في صناعات مثل رقاقات الكمبيوتر.
وخلاصة القول إن الصين تلتزم سياسة هي خليط من التجارة الحرة والماركنتيلية، والأغلب على الظن أن تبقى على النهج هذا في الشراكة التجارية التي تقترحها على دول المنطقة.
والحق يقال، إن اتفاق التجارة العابرة للهادئ كان ليرسخ النموذج الغربي، وركنه نظام تجاري يحتكم الى القانون. ويسعى ترامب ومستشاروه الى حمل الصين على المفاوضة من جديد على السياسات التجارية مع أميركا، ولكن تفاصيل الاستراتيجية الجديدة مبهمة، شأن الغاية منها فيما خلا تقليص العجز التجاري مع الصين في مجال السلع.
ولو لم يلغ اتفاق التجارة العابرة للهادئ لكانت إمكانات ترامب حين مفاوضة الصين، أكبر: وكان في وسع واشنطن الاعتماد على شركائها في الاتفاق لتأمين سلع ومواد أولية إذا رفضت بكين تقديم تنازلات تجارية واندلعت حرب تجارية. ولكن الصين اليوم في إمكانها استمالة شركاء أميركا التجاريين من طريق الشراكة الاقتصادية التي تعرضها عليهم. وتمسّ حاجة ترامب الى استراتيجية تطمئن اليابان. فرئيس الوزراء شينزو آبي ربط مصير حكومته بنمو اقتصادي أكبر على وقع إرساء إصلاحات اقتصادية. وكان اتفاق التجارة العابرة للهادئ سلاحه في تجاوز المعارضة السياسية المحلية لتفكيك الكارتيلات الاقتصادية اليابانية. وترامب مدعو الى التزام الحكمة واستعادة هيكل الاتفاق العابر للهادئ في اتفاق تجارة ثنائية يبرمه مع اليابان، وحري بريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأميركي، أن تتصدر طوكيو زياراته الخارجية.
ولا شك في أن أبرز ارتدادات الفشل في إبرام الاتفاق العابر للهادئ هو رمزية انسحاب الولايات المتحدة من ريادة التجارة العالمية. وطوال 90 عاماً، ومنذ الحرب العالمية الثانية تحديداً، كانت الولايات المتحدة داعية رفع القيود عن الأسواق والتجارة الحرة. ولا شك كذلك في أن مكاسب الأميركيين من التجارة هذه كانت متفاوتة، ولكن الإجماع على التجارة الحرة لم يضعف في عقدي النمو المرتفع في الثمانينات والتعسينات، بل تداعى حين تباطأ النمو في عهد أوباما. والسؤال اليوم يدور على ما سيملأ الفراغ الناجم عن إلغاء الاتفاق إذا لجأت أميركا بدورها الى سياسات ميركانتيلية. ولن تنجم عن ترك الاتفاق هذا صدمة اقتصادية، فالأسواق المالية امتصت الصدمة.
وقد تعدل إدارة ترامب عن أسوأ ما في خطابها التجاري. والأضرار الاقتصادية الناجمة عن الإلغاء هذا ستظهر في الأشهر القادمة، إذا وقعت التجارة في أسر سياسات تسعى الى تذليل المشكلات الاقتصادية الأميركية من طريق النفخ في المشكلات الاقتصادية في بلد آخر، وإذا قيس نجاحها بفائض تجاري بسيط.
وذلك نقلًا عن جريدة الحياة اللندنية..