وحيد عبد المجيد يكتب
البرادعي وثورة 25 يناير و... كل هذا التناقض
الخلاف على ثورة 25 يناير بين أنصارها وخصومها ليس محصوراً في الموقف معها أو ضدها، بل يشمل الكثير من وقائعها. يثير الخلاف جدلاً مستمراً يبلغ ذروته في ذكراها السنوية. غير أن الجدل حول دور الدكتور محمد البرادعي ومواقفه يظل الأكثر حدة وتكراراً بما ينطوي عليه من صورتين متناقضتين. فالديبلوماسي المخضرم، الذي دخل المجال السياسي متأخراً بعدما بلغ قمة تألقه المهني، يُعد «أيقونة الثورة» لدى فريق من المصريين، فيما ينظر إليه فريق آخر بوصفه «رمز الخيانة»!
وبين هذه الصورة وتلك، لا يُطرح السؤال الذي يُفترض أن يُعطىَ أولوية في سياق ملتبس كهذا، وهو: أي دور لعبه البرادعي منذ ظهوره على المسرح السياسي في 2009 معارضاً لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك ومؤيداً للحملة التي رفعت شعار «لا للتمديد... لا للتوريث»، وأين أصاب وأخطأ خلال سنوات أربع مارس فيها العمل السياسي؟
صعد نجم البرادعي سياسياً بسرعة قياسية لأن دخوله المجال العام أدى وظيفة تاريخية بكل معنى الكلمة، وهي تقويض الأسطورة التي زعمت عدم وجود بديل لمبارك، وإذا وُجد فلن يكون إلا نجله. كان معارضو استمرار مبارك لفترة رئاسية سادسة (2011-2017)، ورافضو ما بدا أنه مشروع للتوريث، يبحثون عن بديل «مُقنع» في بيئة سياسية قاحلة جُرفت على مدى عقود، ووسط صراعات حالت دون الاتفاق على أن يكون أي من قادتهم هو هذا البديل.
هكذا كان ثمة دور تاريخي هائم على وجهه في سماء مصر يبحث عمن يؤديه. وتصادف أن البرادعي كان قد أنهى للتو فترته الثالثة في رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووجد أن واجبه يفرض عليه الاتجاه إلى العمل السياسي للمرة الأولى في لحظة كانت الأزمة تحتدم في بلده.
لم يتصور وقتها أنه المؤهل لأداء ذلك الدور التاريخي حتى عندما التف حوله كثير من النخب السياسية والثقافية المعارضة، وقطاع متزايد من الشباب. ولم يكن الوضع المحتقن حينئذ يسمح لأحد بأن يسأل عن مدى قدرة شخص لم يعمل في السياسة في حياته على أن يصبح زعيماً سياسياً في العقد السابع من عمره، وفي لحظة أزمة سياسية بالغة العمق والحدة. كان المطلوب رجلاً ذا مكانة تتوافر فيه مقومات البديل في مجتمع يهتم بالأشخاص أكثر من البرامج والسياسات، وأن يكون هذا البديل مصدراً للإلهام. وكان التغيير قد أصبح هدفاً في حد ذاته، فلم يفكر أحد في ما بعده.
وأدى البرادعي هذا الدور التاريخي فعلاً، لأنه لم يتطلب سوى حضوره في قلب المجال العام. أداه بشيء من التململ، نتيجة تكوينه الشخصي الذي ينفر من الوجود وسط الجموع، ولا يصبر على التفاصيل، بما يتناقض مع ضرورات العمل السياسي. ومع ذلك لم يدرك غير قليل ممن التفوا حوله أن هذا الدور يُعد أقصى ما يستطيعه بحكم تكوينه الشخصي.
لم يتبين لهم أن وظيفته التاريخية انتهت باندلاع الثورة، خصوصاً أن الجميع كانوا مرتبكين. قاوم البرادعي في البداية محاولات تحويله زعيماً سياسياً، لكنه لم يلبث أن مضى في هذا الاتجاه، وتولى رئاسة حزب جديد: «الدستور».
ولم يقلل قراره عدم الترشح في الانتخابات الرئاسية في 2012 انخراطه في الحياة السياسية المضطربة، فأصبح جزءاً من الانقسام الذي ضرب قوى الثورة، لأن تكوينه لم يُهيئه لاستثمار مكانته في احتواء هذا الانقسام، سواء في شقه المدني-الإسلامي، أو في صفوف القوى الديموقراطية.
وهكذا بدأت أخطاء البرادعي فور انتهاء وظيفته التاريخية، وأخذت تتفاقم بالتوازي مع تفاقم الانقسام بعد وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة. وعلى رغم أن إعلان تأسيس «جبهة الإنقاذ» في نهاية 2012 أتاح فرصة لبناء بديل ديموقراطي مدني، لم يكن البرادعي الذي صار منسقاً عاماً لها مؤهلاً بحكم تكوينه لاستثمار تلك الفرصة.
لم يتنبه البرادعي، ككثيرين من الديموقراطيين الأعرف بالساحة السياسية، لعواقب مشاركة قوى معادية للثورة في «جبهة الإنقاذ». وأدى موقفه العدائي المسبق ضد «الإخوان المسلمين» إلى الاستغراق حتى النخاع في مواجهة فرضوها على الجميع، فلم يدرك أن القوى المضادة للثورة أعادت تنظيم صفوفها، بالتعاون مع بعض ما يُسمى «أجهزة السلطة العميقة»، ما أتاح لها العودة لتصدر المشهد بعد إسقاط سلطة «الإخوان» منتصف 2013.
غير أن مسؤولية البرادعي في هذا المجال ظلت أقل من كثيرين غيره، إلى أن تم تفويضه في 27 حزيران (يونيو) 2013 ممثلاً وحيداً لجبهة الإنقاذ في أي مفاوضات تعقب تظاهرات الثلاثين من ذلك الشهر. وهنا تحديداً بدأت مسؤولية البرادعي منفرداً عن إفلات الفرصة الأخيرة لإنقاذ الثورة. كانت خطيئته الأولى أنه قبل موقعاً هامشياً للغاية في مشهد إعلان بيان إسقاط حكم «الإخوان» وبدء مرحلة انتقالية جديدة في 3 تموز (يوليو)، على رغم أن وجوده كان المصدر الرئيس لشرعية ذلك المشهد.
لم يدرك، بسبب ضعف حسه السياسي وقلة خبرته وتعاليه على النصح، المغزى التاريخي لمشهد الثالث من تموز، والارتباط الوثيق بين دلالته الرمزية وآثاره السياسية. كما تجاوز التفويض الذي حصل عليه، فتولى منصب نائب الرئيس الموقت، وساهم في تشكيل حكومة هجينة ضمت عدداً محدوداً من المحسوبين على ثورة 25 يناير، من دون إدراك أن وجودهم الهامشي فيها يُسهل تمرير تشريعات وإجراءات تدعم هيمنة القوى المضادة للثورة على المشهد الجديد.
وارتكب البرادعي خطأه الأخير عندما استقال وغادر مصر في لحظة مؤلمة خلال فض اعتصامي «رابعة» و «النهضة»، بدل أن يسعى من موقعه التنفيذي إلى وضع حد لصراع دموي مؤلم بذاته، وأكثر إيلاماً بما أتاحه من ذرائع لغلق المجال العام. فكانت استقالته «هدية» للقوى المضادة للثورة، إذ تلقفتها لشن حملة لشيطنة أنصارها.
غير أن الكثير من هذه الأخطاء، التي يصح أن يقيم خصومه «تمثالاً» له بسببها وليس رجمه في كل مناسبة، لم يكن إلا نتيجة إصرار أنصاره على تحويله زعيماً بعد انقضاء وظيفته التاريخية، وانسياقه وراءهم في هذا الاتجاه. لذلك يشاركه بعض هؤلاء المسؤولية عن تلك الأخطاء التي ما زالت مصر تدفع ثمنها.