لكن النظامَ حاضِنٌ للفساد وليس مُحارباً له

كتب: بقلم المهندس/ يحيى حسين عبد الهادى

فى: مقالات مختارة

15:44 12 فبراير 2017

العنوان الصادم ليس من عندى ولكنه خلاصة تقرير (أهل الشر) فى منظمة الشفافية الدولية السنوى الذى مرَّ عليه أسبوعان ولم تهتز له الدولة ولا مسؤولوها، ولا إعلامها ولا إعلاميوها، ولا صحافتها ولا صحفيوها .. خلال عامٍ، انحدرت مصر على مؤشر الشفافية (أى مكافحة الفساد) عشرين مركزاً مرةً واحدةً فى قفزةٍ هائلةٍ نحو القاع من المركز 88 إلى المركز 108 .. وتَحَدَّث التقريرُ الدولى الأعلى مصداقية عن (استشراء الفساد في مصر في ظل غياب أي إرادةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ وجادة لمكافحته).

من حظ أعضاء منظمة الشفافية الدولية  أن مقرهم فى برلين وليس القاهرة، وإلا لجرى عليهم ما جرى لرئيس أكبر جهازٍ رقابي في مصر عندما ذكر أقل من عُشْر مِعشار ذلك. والتقرير وخلاصته الفضائحية ليس مفاجئاً لأى متابعٍ لم يَصُّم أُذُنَيْه قرعُ التطبيل ولم تغشَ بصيرتَه ستائرُ الإنجازات الخادعة .. الحقيقةُ بلا رتوشٍ هي أن النظامَ لا يحارب الفساد وإنما هو حاضنٌ له .. وما عدا ذلك هو مَحضُ دعاية.

ففى النُظُم المحاربة للفساد، على سبيل المثال، لا يتبادل الناسُ الإشاعات حول مالك باقةٍ من القنوات الجديدة، وهل هو جهازٌ سيادىٌ كما يشيع أهلُ الشر أم لا؟ وإنما تكفى ضغطةٌ على زر هاتفك لتعرف تفاصيل كل شئٍ عن هذه القنوات وغيرها بدءاً من هيكل مِلكيتها وانتهاءً بميزانياتها .. وإذا كانت الإشاعات حقيقية يتم محاسبة المسؤول عن هذا الإهدار لهذا المال العام .. الذى هو مال الشعب لا مال الجهاز السيادى .. ففي النُظُمِ المحاربة للفساد تكون السيادة للشعب لا للأجهزة.

وفى النظم المحاربة للفساد ينشر رئيسُ الدولة تفاصيلَ ذِمَّتِه المالية فى الجريدة الرسمية، ليس تفضلاً وإنما التزاماً بالدستور، فإذا لم يفعلها لا يستمر على مقعده يوماً واحداً وتتم محاسبته أمام البرلمان .. المشكلة أن برلمانات النظم المحاربة للفساد ليست كبرلماننا .. فميزانياتها أيضاً معلنة وليست سراً من أسرار الأمن القومى.

وفى النظم المحاربة للفساد لا يصدر قانونٌ تاريخىٌ للتصالح مع لصوص المال العام وتكريمهم .. وهو تاريخىٌ لأنه ليس له شبيهٌ فى تاريخ الأمم .. حتى شبيهه الذى أسقطه الشعب الرومانى منذ أيامٍ لا يمكن مقارنته بقانوننا الفريد الذى لا تجرؤ عصابات المافيا على إصداره لإدارة شؤونها .. قانوننا أجازَ التسوية الودية والصلح مع مُرتكبى جنايات الاعتداء على مصالح الدولة والمنصوص عليها فى قانون العقوبات مثل (جرائم اختلاس الأموال العامة والخاصة والاستيلاء عليها بغير حق/ جريمة الغدر أو طلب أو أخذ ما ليس مستحقاً من غراماتٍ وضرائب/ جرائم محاولة التربح من أعمال الوظيفة والإخلال بتوزيع السلع/ جرائم إحداث الضرر بالأموال والمصالح عمدًا بالإهمال/ جرائم الإخلال بتنفيذ بعض العقود الإدارية وعقد المقاولة/ جريمة استخدام العمال سُخرةً/ جريمة تخريب الأموال الثابتة والمنقولة) وأن يكون هذا التصالح خارج ولاية القضاء حتى لو صَدَرَ حُكمٌ جنائىٌ بالإدانة والعقوبة، وبالقيمة التى تُقَدرها لجنةٌ حكوميةٌ يشكلها رئيس الوزراء ويشارك بها محامو السادة اللصوص(!) ولا يوجد ما يمنع مشاركة السيد اللص شخصياً لكى تكتمل البَرَكةُ .. وعندما اكتشف السادة اللصوص بعد عدة شهورٍ أن هذا القانون (رغم ما به من عوار) لا يعفى من العقوبة شركاءَ اللص (كالموظف العام الذى سَهّل له السرقة مثلاً) صَدَرَ تعديلٌ آخر يشمل بالعفو كل العصابة، ليعود كلٌ مِن أفرادها (بالقانون) خالياً من الذنوب كيوم ولدته أُمُهُ .. هل هناك حضنٌ للفساد والفاسدين أكثر دفئاً من هذا؟!.

وفى النُظُمِ المُحاربة للفساد لا يصدر قانونٌ مثل قانون تحصين العقود الذى جاء بمثابة عفوٍ شاملٍ عن كل جرائم الخصخصة السابقة واللاحقة.

أما عن ضبط لصٍ هنا ومُرتشٍ هناك فلا يعنى أن النظام يحارب الفساد .. فكل الأنظمة فى كل الأزمان تفعل ذلك .. الصومال تقبض على لصوص والدانمارك أيضاً .. ولم يتوقف ذلك فى مصر من أيام الفراعنة .. حتى فى عصور أكثر الحكام فساداً .. حتى زعماء العصابات يعاقبون من يسرقونهم من أفراد العصابة .. عمليات الضبط المتتالية لا تعنى أكثر من جهدٍ مشكورٍ لأحد الأجهزة .. بالمناسبة أين باقى الأجهزة مثل مباحث الأموال العامة والجهاز المركزى للمحاسبات؟. وهل صحيحٌ ما يُشِيعُه أهل الشر من أنها تم تأميمها إعلامياً لصالح جهازٍ واحدٍ لأسبابٍ عائلية؟ .. ولو صحَّ ذلك لكان شكلاً آخر من أشكال الفساد.

في النُظُمِ المُحاربة للفساد لا توجد إشاعاتٌ أصلاً .. فكلُ شئٍ في النور .. كلما فتحتَ طاقةً للشفافية أغلقتَ عشرةَ أبوابٍ للفساد .. الفساد هو النتاج الطبيعى للاستبداد .. تلك بديهيةٌ ولن نخترع العجلة.

 

ــــــــــــــــــــ

نقلا عن (البداية- الأحد 12 فبراير 2017)

اعلان