فاتنة الدجاني تكتب
بلير... كي لا ننسى
كيف سيذكر التاريخ رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير؟ لا بد أن خاطراً من هذا القبيل راود أذهان كثر ممن استمعوا إليه وهو يتحدث عن ضرورة التصدي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكزيت)، تحديداً قوله إنه على يقين من أن «الأجيال المقبلة ستحكم علينا بقسوة إن لم نحاول».
ترى، هل خطر لبلير أن يطرح هذا السؤال على نفسه؟ وهل هو على اليقين نفسه عندما يتعلق الأمر بحكم الأجيال المقبلة عليه وعلى سياساته، حين كان في موقع القرار رئيساً للحكومة على مدى عشر سنين بدءاً من عام ١٩٩٧، وبعده؟
الأجيال التي يخشاها بلير، هل ستنسى أو تغفر له خديعته الكبرى التي مهّدت لحرب العراق عام ٢٠٠٣، يوم ضرب بعرض الحائط موقف الغالبية المناهضة للحرب في بلاده، وتجاهل التظاهرة المليونية في لندن، وذهب الى الحرب «بناء على معلومات مزيفة» وفق «تقرير شيلكوت»، فكانت النتيجةُ تدمير بلد عريق ضاربة جذوره عميقاً في الحضارة الإنسانية، ومقتل مئات الآلاف من العراقيين، وفراغاً ملأه المتطرفون، ونزاعاً داخلياً لم ينته بعد، ومصادرة مستقبل أجيال. لكن الحرب أيضاً نالت من بلير وسمعته وإرثه، وما زال شبحها يطارده. فهل يكفي إقراره بمسؤوليته في فشل خطط ما بعد غزو العراق، وإن تمسك بسلامة قرار الغزو؟
أحزان الفلسطينيين وخيباتهم من بلير أيضاً كثيرة، خصوصاً عندما كافأه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن لوقوفه معه في حرب العراق، بتعيينه على رأس اللجنة الرباعية الدولية للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل عام ٢٠٠٧، فأمسك بأهم عصب لقضايا المنطقة هو القضية الفلسطينية، تحديداً في أجواء «الفوضى الخلاقة»، وكأن تدمير السلام في فلسطين استكمال لتدمير المنطقة بدءاً بالحرب العراقية. وبعد ٨ سنوات عجاف، طالبت السلطة برحيل بلير وإقالته بسبب «انحيازه التام لإسرائيل» إضافة الى ما نُشر عن تركيزه على مصالحه الاقتصادية الواسعة الانتشار في المنطقة، ونفقاته التي كانت تقضم معظم موازنة «الرباعية».
استقال بلير، ولكن بقيت في الذاكرة الفلسطينية خطته لإصلاح مؤسسات السلطة الوطنية، فهو الذي سوّق فلسطينياً ودولياً فكرة أن لا أمل بتقدُّم في مساعي التسوية السياسية للصراع من دون إدخال إصلاحات بنيوية وإدارية على أجهزة الأمن التابعة للسلطة ومؤسساتها القضائية من أجل ملاحقة أكثر نجاعة لحركات المقاومة، خصوصاً في الضفة الغربية. والأنكى أن الخطة تطلب من الضحية حماية أمن الجلاد، من دون أي إشارة الى القمع الإسرائيلي واعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين.
كما لا ينسى الفلسطينيون خطته لحل مشكلة اللاجئين بعيداً عن إسرائيل من خلال فكرة «إعادة تأهيلهم»، أو مبادرته الاقتصادية التي وعدت باقتصاد سعيد ومستدام، ليتضح أنها ليست بعيدة عن فكرة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو عن «السلام الاقتصادي»... وهذا يتجاهل التنمية ويركّز على تسهيلات لتحسين حياة الفلسطينيين من خلال رفع بعض الحواجز العسكرية وتخفيف القيود على التنقُّل.
اليوم، يحصد الفلسطينيون ما زرعه بلير. فسقف الحلول المطروحة ومواقف المجتمع الدولي، وحتى الدراسات والتقارير وتوصيات مراكز البحوث، لا تخرج عن سياقات الخطط التي وضعها، وأصبحت حجر زاوية في أي حلول سياسية.
نتذكر بلير الآن لأن مساعيه للعودة الى المشهد السياسي، وهي عودة لا تُحمد حتماً، وإن كانت بالمعنى السياسي بريطانية بحتة، تُذكّرنا بمسؤوليته المباشرة عما يحصل في منطقتنا التي ما زالت تعيش ارتدادات تلك الحقبة التي حكم فيها وخطط وتآمر. وما الحروب وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط الآن إلا تأثير الدومينو الذي أطلقته حرب العراق وإخفاقات عملية السلام، ووصلت ارتداداته الى أوروبا وأميركا والعالم.
لا نصدق «بلير الجديد»، وفي ذاكرتنا وواقعنا تُقيم أخطاؤه وخطاياه، فنتذكره، كي لا ننسى.