محمد علي فرحات يكتب
تقسيم الأميركيين وتوحيد الفلسطينيين؟
حين يتناسى البعض فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية في انتخابات ديموقراطية، يتسرّع في استنتاجه حول انقسام الأميركيين، وفي حال أيديولوجيين معادين للولايات المتحدة يصل الأمر إلى توقُّع بداية انهيار الاتحاد، وتفتت شعب بنى بالحرية والعمل دولة مؤثرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً في العالم كله، بوصفها وارثة الحداثة الأوروبية ومطورتها إلى مديات واسعة.
المواقف الحادة ضد ترامب تكاد تتركز على سلوكه السياسي المتعجل والمتناقض، الناتج من خبرته السياسية شبه المعدومة ووعوده المطلقة في شؤون تتطلب درساً ثم تراجعه بطرائق مداورة وغامضة لا تليق برئيس دولة كبرى.
وتحمل الأخبار ما يشبه السجال بين ترامب ومعارضيه، في غياب مؤيدي الرئيس الكثر الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض. هذا المشهد لا يعني انقساماً شعبياً واضحاً بقدر ما يعبّر عن تناقض منطقي مع النخبة الحاكمة يشعر به رجل وصل إلى رأس الدولة نتيجة نوازع شعبية معقّدة يئست من جسم هذه الدولة وتريد تغييره، أو بالأحرى تطهيره، بعدما أوغلت الفئات الحاكمة من الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، في تهميش قطاعات شعبية خسرت أعمالها في الصناعات الخفيفة والزراعة، وفي إهمال بنى تحتية صارت في بعض الولايات أشبه بمثيلاتها في العالم الثالث.
لم ينخرط منتخبو ترامب إجمالاً في السجال حول أدائه، ربما لاعتقادهم أنهم أساؤوا الاختيار، لكنهم لا يزالون على موقفهم السلبي من الفئات الحاكمة التي تمثّلت بالمرشحة هيلاري كلينتون. من هنا المبالغة في النظر إلى معارضة أداء الرئيس على أنها انقسام اجتماعي أميركي حاد وخطر، ولنتذكر دائماً أن الانقسام في حد ذاته من مظاهر النظام الديموقراطي.
الهجوم عربياً على ترامب تفاقم بعد استقباله بنيامين نتانياهو ونظرته الغامضة إلى حل الدولتين للقضية الفلسطينية، ما اعتبره المهاجمون تخلياً عن تعهّدات أميركية تجاه الفلسطينيين، ووصلوا إلى تصوير نتانياهو منتصراً، متعامين عن الواقع، فكأنهم يريدون إقصاء ترامب وتقديمه هدية إلى اليمين الحاكم في إسرائيل. كل ما حدث أن ترامب ردّد كلام الرؤساء الأميركيين السابقين، على طريقته، لكن محترفي اليأس عندنا اعتبروا كلامه إنهاء لدور الوسيط الذي حاولت واشنطن أن تلعبه ففشلت أو أفشلت نفسها.
وبدلاً من ترميم الخلافات الداخلية والاعتراف بالتنوع السياسي والعقائدي للشعب الفلسطيني، مع التركيز على المصلحة المشتركة في وجود دولة فلسطينية تعترف بنفسها ويعترف بها العالم، ينظر البعض إلى رئاسة ترامب كمحطة لتجديد الخلافات الجذرية بين الفلسطينيين وتبادل الحذر، بل التخوين أحياناً.
جاء ذلك في اتهام الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي رمضان عبدالله شلح السلطة الفلسطينية بمشاركة الاحتلال في محاصرة الانتفاضة، وكان كلامه حاداً لأنه انطلق من طهران أثناء مؤتمر لدعم هذه الانتفاضة، وقد ردّت "فتح" معتبرة كلام شلح "غير مسؤول ويأتي في وقت تخوض فيه دولة فلسطين مواجهة حقيقية مع الاحتلال على الأرض وأمام المؤسسات الدولية".
من مؤتمر مدريد إلى اتفاقات أوسلو، هل انتهت مرحلة الحل السياسي حقاً؟
كثيرون يتمنّون ذلك، لكن غالبية الفلسطينيين تحذّر من اعتبار البندقية حلاً وحيداً للقضية، فمجال السياسة ينبغي الحفاظ عليه، خصوصاً مع تشعُّب مصالح الفلسطينيين إقليمياً وعالمياً، ومع حضور قضيتهم الدائم في المحافل الدولية، لكونها محقة، ولكون الطرف الآخر هو إسرائيل المرتبطة إلى حد بعيد بيهود العالم "نجوم" الحداثة، فتكتسب القضية منهم لمعاناً، من باب أن الأعداء يتشابهون فيما هم يتصارعون.
الحل السلمي هو الطريق إلى فلسطين وإن طال أمده، لكونه حاجة فلسطينية أولاً وعالمية ثانياً وإسرائيلية ثالثاً، على رغم صلف اليمين الحاكم في تل أبيب.
وإذا كان الانقسام طبيعياً في الديموقراطية الأميركية، فإن التوحيد القسري للفلسطينيين على قاعدة البندقية وحدها يبعدهم عن الديموقراطية ويقدّمهم رهائن لكبار في الإقليم والعالم.