«غزوة دمشق» ... فائض قوة أم ضعف؟
شكل الهجوم المباغت الذي شنته فصائل المعارضة بقيادة «فيلق الرحمن» و «جيش الإسلام» و «هيئة تحرير الشام» على جبهة جوبر عند المدخل الشمالي لمدينة دمشق، تطوراً مهماً على صعيد العمليات العسكرية في العاصمة السورية، وقطيعة مع «الستاتيكو» العسكري الذي هيمن عليها منذ خمس سنوات.
ثمة تساؤلات كثيرة عن توقيت الهجوم وأسبابه. هل هو مرتبط بفائض في القوة لدى فصائل المعارضة بعد تحييد خلافاتها الجانبية لتحقيق انتصارات عسكرية مستدامة؟ أم أن الأمر مرتبط بتكتيك هدفه تحسين شروط التفاوض مع توجه النظام نحو فرض تسوية على حي برزة والقابون وتشرين؟
منذ نهاية عام 2012 بدأ النظام إقامة سياج عسكري - أمني في محيط دمشق، أعقبه سياج آخر بعمق نحو عشرة كيلومترات داخل الأراضي المحيطة بالعاصمة التي تتبع إدارياً ريف دمشق.
وبين هذين السياجين بقي كثير من البلدات والأحياء تحت سيطرة فصائل المعارضة من شمال غرب العاصمة (قرى وادي بردى، قدسيا، الهامة) إلى الغرب (معضمية الشام)، إلى جنوب العاصمة (داريا، ومخيم اليرموك) إلى الشرق (الغوطة الشرقية)، وانتهاء بالأحياء المطلة على البوابة الشمالية والشمالية الشرقية للعاصمة (حي جوبر، القابون، برزة، حي تشرين، التل).
استخدم النظام سياسة الحصار الخانق مع ضربات عسكرية مستمرة لإبقاء فصائل المعارضة والأهالي تحت واقع عسكري- إنساني صعب للغاية، فنجح في تحويل مناطق سيطرة المعارضة إلى جزر جغرافية منعزلة.
ومع انقلاب الموازين العسكرية لمصلحته إثر التدخل الروسي، بدأ النظام العمل على وضع تسويات خانقة في القرى والبلدات بمحيط دمشق، فبدأ بالبلدات الواقعة جنوب العاصمة وغربها ثم شمالها الغربي، بسبب خصوصيتها لـ «حزب الله» وإيران.
في شباط (فبراير) الماضي استأنف النظام حملة عسكرية واسعة على حيي القابون وتشرين لم تعرف منذ ثلاثة أعوام، تزامنت مع مفاوضات لإخراج حي برزة من المعركة، خصوصاً المناطق القريبة من القابون، قاطعاً بذلك اتفاقات الهدن التي تمت بينه وبين هذه الأحياء في عام 2014.
منع النظام العبور من حي برزة الذي يتمتع بموقع استراتيجي وإليه، لإشرافه على أوتوستراد دمشق- حمص، وقربه من مستشفى تشرين العسكري، وحي عشّ الورور، الذي يُعتبر من المناطق الموالية للنظام.
الهدف الرئيسي هو فصل حي القابون عن حيي تشرين وبرزة إلى الغرب، وفصله عن الغوطة في الشرق لقطع أي تواصل بينهما، وبالتالي قطع أهم شرايين الإمداد للغوطة الشرقية.
كانت خطة النظام تقضي بفتح معابر من الغوطة الشرقية إلى مخيم الوافدين لانتقال المدنيين فقط وترك المسلحين في الغوطة تمهيداً للعملية العسكرية الكبرى، لكن الأهالي رفضوا ذلك، فاضطر النظام إلى تعديل خططه والبدء بعزل القابون وحيي تشرين وبرزة، وفرض تسوية مجحفة قبيل الانتقال إلى معركة الغوطة الشرقية.
طالب النظام حي القابون بإغلاق أنفاق التهريب نحو الغوطة، وهو ما رفضته المعارضة، في وقت لم يغلق النظام معبر الوافدين الذي يمد الغوطة باحتياجاتها بسبب الأرباح الكبيرة التي يحصل عليها، حيث يتم بيع السلع بأسعار مضاعفة جداً لأهالي الغوطة.
وإذا أغلق النظام معبر الوافدين التابع له في مخيم الوافدين، فستكون الغوطة الشرقية قاب قوسين أو أدنى من كارثة إنسانية، ذلك أن معبر الوافدين وأنفاق التهريب شمال غرب الغوطة نحو القابون بقيت شريان الإمداد الرئيسي عقب خسارة المعارضة منطقة المرج الخصبة التي تعتبر السلة الغذائية للغوطة الشرقية.
ويشكل خروج برزة وتشرين والقابون من معادلة الصراع ضربة قاتلة للمعارضة في الغوطة الشرقية نتيجة خسارة خط الإمداد الرئيسي لها (المحروقات، الغذاء، الدواء، الذخيرة).
أمام هذه المعطيات، جاء الهجوم العسكري للمعارضة لتخفيف الضغط العسكري بعدما فقدت السيطرة على مناطق في القابون وبرزة في الآونة الأخيرة، وربط حي جوبر بحي القابون، وبالتالي ربط الأحياء المحاصرة عبر حي جوبر بالغوطة الشرقية أهم معاقل المعارضة في ريف دمشق.
لكن هذين الهدفين لا يمكن تحقيقهما إلا موقتاً، وربما لساعات، فمجمل هذه المناطق الممتدة من جوبر إلى القابون إلى برزة، هي عبارة عن جزر منعزلة محوطة بثقل عسكري كبير للنظام، ولا تستطيع المعارضة في واقعها الحالي تحقيق الترابط الجغرافي بينها، فلا تملك العديد البشري والسلاح الكفيل بتحقيق هذه الأهداف.
نعم، شكلت العملية مفاجأة للنظام وأربكته لساعات، وكشفت قدرة المعارضة على صنع المبادرة، لكن قيمة ذلك بالمعايير العسكرية لا تعدو الصفر، فالنظام استطاع السيطرة على معظم المناطق التي أخذتها المعارضة، حيث أعاد السيطرة على محور معمل «سيرونيكس»، جنوب غربي جوبر، في وقت استطاع الوصول إلى شركة الكهرباء شمال غرب جوبر، ليهيمن على مساحة واسعة، قبيل استكمال مسيره للسيطرة على المنطقة الصناعية التي تفصل القابون عن حي جوبر.
باختصار، لن تستطيع المعارضة تحقيق إنجاز نوعي يؤدي إلى تغيير في موازين القوى من شأنه أن يفك الحصار عن الغوطة الشرقية والأحياء الشرقية، إذ إن الحديث عن ربط الغوطة الشرقية بأحياء القابون وبرزة وحي تشرين أمر يبدو مستحيلاً، فأهداف المعارضة تتجاوز قدراتها العسكرية.
لكن إذا استطاعت فصائل المعارضة استيعاب هجوم النظام في معاقلها الأساسية، خصوصاً في حي جوبر والقابون، فإنها ستعزز موقعها التفاوضي حيال التسوية التي يسعى النظام إلى تحقيقها في الأحياء الثلاثة، وهذا هدف يبدو تحقيقه ممكناً.