دولة علمانية بقيم إسلامية
بَنَت فرنسا الحديثة، التي تعد اليوم الجمهورية الخامسة، قوتها ومؤسساتها على قيم علمانية بحتة، إذ تم فصل الكنيسة عن الدولة بموجب قانون يعرف بـ «قانون 09/12/1905»، القاضي بفصل الكنيسة عن الدولة في ظل الجمهورية الثالثة، والذي ما زال يُعمل به إلى الآن.
يُعّد الخوف من المواجهة، إخفاقا سياسيا لمستقبل أية دولة مستقلة ومزدهرة اقتصاديا وسياسيا وجغرافيا. ولا يخفى على أحد، أن العرب المسلمين يعيشون راهناً أزمة دينية دفعت الكثيرين منهم إلى الشك بدينهم والخوف منه، في ظل ظهور مجموعات إرهابية مسلحة تحارب وتقتل المسلم قبل المسيحي واليهودي بحجة الدين وباسمه، الأمر الذي يحتّم عليهم أن يتصفوا بالموضوعية ويعتمدوا أعلى معايير الشفافية للخروج من هذه الأزمة التي تهدد وجودهم كأمة، والتي مِن المرجّح أن تتطور إلى كارثة حضارية محقّقة تفضي إلى انقراضهم كأمة متعددة الأعراق والإثنيات.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المضمار؛ لماذا لا تتبنى دول المنطقة مبدأ «الدولة العلمانية بقيم إسلامية» وتمزج معها القيم المسيحية، التي تشكِّل أصلاً نسيجاً تاريخياً وحضارياً لسكان المشرق العربي؟
إن مبدأ الدولة العلمانية لا يتنافى مع الدين بل خلاف ذلك يحميه من آفات السياسة ولغطها، وبالتالي ما يؤدي إلى عزل بعض المؤسسات والأحزاب التي تستخدم الدين أداةً لتمرير تصوراتها السياسية الهادفة إلى بناء دولة على أسس دينية لا تحترم الأقليات، وتسعى إلى فرض الشريعة الإسلامية على مسيحيي الشرق مثلاً.
إن رؤية الغرب للإسلام، تاريخيا وحتى يومنا هذا، مبنية على خرافات ونظرة استشراق سلبية، عبّر عنها المفكر إدوارد سعيد بإسهاب وبعد تاريخي في كتاباته عن المستشرقين، لذا فإن رؤية الغرب لم تتعافَ من حقدها ولا من نظرتها المتعجرفة الشوفينية للمشرق العربي كأمة ودين وحضارة، التي تتجلى في أيامنا هذه عبر زج المنطقة بصراعات إقليمية وداخلية وطائفية، هدفها تقسيم كل بلد عربي إلى دويلات يسهل اختراقها ومسخها ثقافياً وسياسياً، تبقى في حالة تبعية مطلقة للقوى العظمى وبيادق لها في صراعاتها أو حروبها المستقبلية.
إن الدين الإسلامي الحنيف بعيد كل البعد عن كل ما يحاول الغرب دمغه به، مِن إرهاب ووحشية وتخلّف غايته تدمير المنطقة حضاريا وجغرافيا. إن القيم الإسلامية الراسخة والحقيقة التي بشّر بها الإسلام أكبر دليل على ذلك. لقد قام ترامب خلال حملته الانتخابية بترديد عبارة «الاٍرهاب الاسلامي»، التي أيقظ من خلالها العداء المدفون لدى بعض الأمريكيين الذين بادلوه الجنون، وترجم هذا من خلال تعيينه لشخصيات معروفة بعدائهم للإسلام كمستشارين في إدارته أمثال ستيف بانون.
أبعد مِن ذلك، فقد جذبت شعاراته، داخليا، شريحة كبيرة مِن الناخبين كان لها أبلغ الأثر على تغيير نتيجة الانتخابات لمصلحته. كما استخدمت أيضاً المرشحة اليمينية الفرنسية مارين لوبين نفس العبارة في أحد خطاباتها، لهدف مفضوح هو الفوز على اكتاف العنصرية الدينية والنيل من الإسلام لا أكثر.
مصر، كانت وما زالت دولة محورية وإستراتيجية، وهي تشكل بوابة دبلوماسية وحضارية، كالعراق الذي انهار بعد الغزو الأمريكي سنة 2003 وتسبب بتسهيل زرع الأيديولوجية الأمريكية للفوضى الخلاقة.
لذا على مصر أن تكون أكثر جرأة اليوم عن غيرها من الدول وتأخذ خطوة تكون السباقة فيها للخروج من أزمة الدين ومحاربة الاٍرهاب. مَن أتى بـ «داعش» تقع عليه مسئولية القضاء عليه، فالدين الإسلامي لا علاقة له به لا من قريب ولا من بعيد...؛ من يمول «داعش» والمجموعات الإرهابية في المنطقة هو الذي لا يريد القضاء عليهم.
لو استطاعت الدول العربية استحداث نظام يضمن حرية التعبير والمساواة والعدالة الاجتماعية، على أسس وقيم إنسانية كالتي يعتمدها بالغرب، لانتهت الثورات والحروب الأهلية وأبعدت عن سيادة أراضيها كل المرتزقة الممولين العاملين بأجندات تقسيمية هدفها رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط. إنّ ترميم الكنائس واحترام الديانة المسيحية يعكس مدى تقبل المسلم للآخر، سيّما أن ما يميّز المشرق العربي هو غناؤه الديني، الذي هو أساس حضارته وثقافاته وثرائه الفكري.
المشرق العربي الذي وهب الكثير من المفكرين والفلاسفة أمثال يعقوب بن إسحاق الكندي، الطهطاوي، ابن رشد، الفارابي، الغزالي، وغيرهم الكثير مِن الهامات المعاصرة، لا يمكن أن تنتهي حضارته أو يتغير مسارها على يد زمرة مرتزقة تكفيرية جاهلة، لا تفقه بدين الله ولا بدنياه. لذا، فإنّ دحر الفرد المتأسلم المزيف والمرتبط بالإرهاب الوحشي واجب إنساني وأخلاقي وسياسي، وهو أحد أبرز مسئوليات الدولة لتثبت شرعيتها والحفاظ على أمنها القومي وسلامة شعبها.
نقلًا عن "الأهرام"