فهمي هويدي يكتب:
إذ تصبح الأوقاف حلا
الوقف فى تركيا واقع يشارك فى صنع الحياة، وليس تاريخا طويت صفحته وطمست معالمه. تلك إحدى الخلاصات التى خرجت بها أثناء مشاركتى فى ملتقى القدس الدولى الذى عقد باسطنبول فى الأسبوع الماضى.
إذ لفت نظرى أثناء الحوارات التى جرت حول الدور الذى تقوم به الأوقاف فى تركيا أنها تمول الأغلبية الساحقة من أنشطة المجتمع المدنى فى جميع المجالات. فثمة مساجد موقوفة فى كل حى يتولاها مجلس إدارة يمثل فيه الأهالى. وهذا المجلس يباشر مختلف الأنشطة الخيرية من رعاية الضعفاء والمحتاجين وتشجيع أهل العلم وتحفيظ القرآن وإحياء المناسبات الدينية، إلى غير ذلك من الأنشطة التقليدية. وإلى جانب ذلك فثمة توسع هائل فى مصارف الوقف الذى بات يمول ما لا حصر له من الأنشطة الاقتصادية والثقافية والفنية والعلمية.
بل إن هناك وقفا للجمعية الكمالية نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك، الذى أسس الجمهورية وفرض العلمانية على البلاد بعد إلغاء الخلافة العثمانية، وهو ما يسوغ لنا أن نعيد التنويه إلى أن مفهوم الوقف فى الخبرة التركية تم توسيعه حتى أصبح يمول كل ما ينفع الناس فى دنياهم ويسهم فى تنمية المجتمع وإثرائه. (قيل لى إن «وقف الطيران» لا يزال قائما، وعوائده تقدم إلى سلاح الطيران كل عام).
من الملاحظات المهمة فى هذا الصدد أن كمال أتاتورك الذى قاد حملة إسقاط الخلافة الإسلامية ألغى وزارة الأوقاف لكنه لم يلغِ الأوقاف ذاتها، وإنما أتاح لها أن تستمر وتزدهر حتى صارت إحدى القيم المعتبرة فى المجتمع التركى، بحيث أصبح كل قادر حريصا على أن يوقف جزءا من عقاره أو ماله لأعمال البر والنفع العام.
الملاحظة الثانية وثيقة الصلة بالأولى، وخلاصتها أن القانون التركى لا يسمح لأى جهة أجنبية بأن تمول نشاطا أهليا فى داخل البلاد لأن المجتمع يتكفل بذلك. كما أنه لا يسمح بفتح فروع لأى مؤسسة أجنبية فى داخل تركيا إلا إذا سمحت الدولة التى تنتمى إليها المؤسسة للمؤسسات التركية بأن تمارس نشاطها على أراضيها، إعمالا لمبدأ المعاملة بالمثل.
هذا الدور الحيوى للوقف ليس جديدا، ولكن الجديد يتمثل فقط فى تطوير مجالاته وتوسيع نطاقها. وأى دارس لتاريخ المجتمعات الإسلامية يلاحظ أن الأوقاف كانت فى مقدمة المؤسسات التنموية التى عرفها التاريخ الإسلامى. ومؤلف الدكتور إبراهيم بيومى غانم «الأوقاف والمجتمع والسياسة فى مصر»، يعد أهم وثيقة معاصرة وفَّت هذا الموضوع حقه فى التجربة المصرية.
إذ رصد فيه مؤشرات الإقبال على الوقف بين مختلف شرائح المجتمع المصرى، أثرياؤه وفقراؤه، كما خصص فصلا للأدوار التى قام بها الوقف فى مجالات الصحة والتعليم والأسرة والأشغال العامة إلى جانب دعم الحركة الوطنية فى مواجهة الاحتلال البريطانى. والحاصل فى مصر له نظائره فى مختلف أرجاء العالم العربى والإسلامى. إلا أن أهم ما ميز الوقف التركى أنه كان من القوة والرسوخ بحيث إن حركته الفاعلة فى المجتمع لم تتوقف على مر الأزمان، ولاتزال تتمتع بتلك القوة والفاعلية حتى الوقت الراهن.
مما ذكره الدكتور إبراهيم غانم فى أبحاثه أن الخديو إسماعيل الذى حكم مصر عام ١٨٦٣ كان من أهم الواقفين، وحين عزل وتم نفيه إلى تركيا، فإنه حرر وقفية فى محكمة بشكتاش (أحد أحياء إسطنبول) بتاريخ ٩ شعبان ١٣١٢ الموافق ٤ فبراير عام ١٨٩٥، أوقف فيها للخيرات ٩٥٥٧ فدانا من الأراضى التى يملكها، وأثبت فى نهاية الحجة أنه «أوقفها وحبَّسها (لوجه الله تعالى) ولم يعد يملك شيئا يطلق عليه اسم مال خلاف ما على بدنه من الملابس». وبعد نحو ٣٠ يوما (فى ٢ مارس من نفس العام) توفاه الله وانتقل إلى رحاب ربه.