جمال حمدان.. تنبأ بالمستقبل «الأسود» ووفاته مازالت غامضة
"كانت مصر سيدة النيل، بل مالكة النيل الوحيدة- الآن فقط انتهى هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص والمستقبل أسود"، لم تكن تلك الكلمات وليدة هذه الأيام لتصف ما آلت إليه مفاوضات سد النهضة، وإنما نبوءة العبقري فليسوف الجغرافيا "جمال حمدان"، التي مرت عليها سنوات طويلة.
رغم أن الموت غيب المفكر والعبقري جمال حمدان منذ ما يزيد عن ربع قرن، إلا أنه لايزال حاضرا بما تركه من إرث أدبيا كان بمثابة نافذة على استشراق المستقبل، فها هو اختارته الهيئة العامة للكتاب ليكون شخصية الدورة الـ 51 من معرض القاهرة الدولي للكتاب 2020، والتي انطلقت فعاليه بداية من 22 يناير، ويستمر حتى 4 فبراير المقبل.
نشأته
يعد الدكتور جمال حمدان، المفكر والعبقري، أحد أعلام الجغرافيا إذ درسها في كلية الآداب جامعة القاهرة، وبعد حصوله على منحة دراسية في بريطانيا، عاد ليحصل على الدكتوارة في فلسفة الجغرافيا من جامعة ريدنج عام 1953.
ولد جمال حمدان في قري ناي بمحافظة القليوبية في 4 فبراير عام 1928، ينتمي لقبيلة بني حمدان العربية، التي نزحت إلى مصر أثناء الفتح الإسلامي، وكان والده مدرسا للغة العربية في مدرسة شبرا.
حين كان حمدان صبيا حرص والده الأزهري على تحفيظ أبنائه السبعة القرآن الكريم وأحكام التلاوة والتجويد على يديه، ما كان له أثره في امتلاكه نواصي اللغة العربية، التي غلبت على أسلوبه الأدبي المبدع.
بعد حصول حمدان على الابتدائية من مدرسة التوفيقية الثانوية، حصل على شهادة الثقافة عام 1962، ثم حصل على التوجيهية بالمركز السادس على مستوى محافظات مصر، ليلتحق بعدها بكلية الآداب قسم الجغرافيا.
فليسوف الجغرافيا
كان حمدان طالبا متفوقا متفرفا للعلم، ليتم تعيينه معيدا بالكلية بعد تخرجه، ثم أوفدته الجامعة في بعثة إلى بريطانيا، عاد بعدها ليحصل على الدكتوراة في فلسفة الجغرافيا من جامعة ريدنج عام 1953 بعنوان "سكان وسط الدلتا قديما وحديثا".
انضم حمدان مرة أخرى لهيئة التدريس بالجامعة بعد عودته من البعثة الدراسية، وأصدر 3 كتب هم "جغرافيا المدن"، "المظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم"، "دراسات عن العالم العربي".
جوائز
وقد حصل حمدان نتيجة كتاباته المتفردة ذات الأسلوب الأدبي البديع على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية عام 1959، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1986، وجائزة التقدم العلمي من الكويت عام 1992، وحصل على وسام العلوم من الطبقة الأولى عن كتابه شخصية مصر عام 1988.
ولم يستمر حمدان طويلا بالجامعة، فبعد أن تخطته حركة ترقيات بالجامعة عام 1963 نتيجة الواسطة والمحسوبية، تقدم باستقالته وعاش حالة من الإحباط دفعته للعلزلة عن الجميع، والتفرغ للبحث والكتابة.
حركة الثقافة
تمتع جمال حمدان بأسلوب متميز يقوم على منهج شامل معلوماتي وتجريبي وتاريخي، ولم يكن ير في علم الجغرافيا ذلك العلم الوضعي الذي يقف على حدود الموقع والتضاريس، وإنما باعتباره علم يمزج بين تلك العلوم المختلفة.
كانت نظرة حمدان للعلاقة بين الإنسان والطبيعة في المكان والزمان متوازنة، فقد برزت في كتاباته نظرته الجغرافية المتوازنة للعلاقة بين الإنسان المصري والطبيعة بصفة عامة والنيل بصفة خاصة، وكيف أفضت هذه العلاقة إلى صياغة الحضارة المصرية على وجهيها المادية والروحية.
تبنوءات المستقبل
تميز حمدان بقدرته على استشراق المستقبل، إذ كان أول من تنبأ بتفكيك الاتحاد السوفيتي، وأول من أشار إلى التطرف الديني بأنه سيكون معضلة في عالمنا الحالي.
ولحمدان السبق في فضح أكذوبة أن اليهود الحاليين هم أحفاد بني إسرائيل الذين خرجوا من فلسطين خلال حقب ما قبل الميلاد، إذ أثبت في كتابه "اليهود أنثروبولوجيا" الصادر في عام 1967، أن اليهود المعاصرين ليسوا هم أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية "الخزر التترية" التي قامت بين "بحر قزوين" و"البحر الأسود.
مستقبل نهر النيل
ولعل أبرز التبنوءات التي أصبحت واقعا مجسدا هذه الأيام وأكثر تجسيدا الأعوام القادمة، تبنوءه لمستقبل نهر النيل، فهو من قال :"إن مصر إذا لم تتحرك لكي تكون "قوة عظمى تسود المنطقة بأثرها، فسوف يتداعى عليها الجميع يوما ما "كالقصعة!" أعداء وأشقاء وأصدقاء أقربين وأبعدين".
وقال حمدان في فقرة أخرى :"ظهر لمصر منافسون ومطالبون ومدّعون هيدرولوجيا. كانت مصر سيدة النيل، بل مالكة النيل الوحيدة - الآن فقط انتهى هذا إلى الأبد، وأصبحت شريكة محسودة ومحاسبة ورصيدها المائي محدود وثابت وغير قابل للزيادة، إن لم يكن للنقص، والمستقبل أسود".
سجن اختياري
وبعد تعرض حمدان لمخظلمة أكاديمية بتخطيه دوره في التعيين نتيجة الواسطة، قرر حمدان أن يعتزل العالم ويقبع في شقة صغيرة في منطقة الدقي بمحافظة الجيزة.
أبرز أعماله
ترك حمدان إرثا من الكتب والأبحاث والمقالات، بعدد 29 كتابا، و79 مقالا وبحثا، ويأتي في مقدمة الكتب كتاب "شخصية مصر...دراسة في عبقرية المكان"، وصدرت الطبعة الأولى له عام 1967 في نحو 300 صفحة، ثم تفرغ لإنجاز صياغته النهائية لمدة 10 سنوات حتى صدر مكتملا في 4 مجلدات يضم نحو 4 آلاف صفحة.
ومما أثرى المكتبة العربية من كتابات جمال حمدان، كتاب "اليهود أنثروبولجيا"، وكتاب "قناة السويس"، وكتاب "أفريقيا الجديدة"، وغيرها من المؤلفات المنشورة باللغتين العربية والإنجليزية.
وفاة غامضة
وفي 17 إبريل عام 1993، توفي جمال حمدان في ظروف غامضة داخل شقته، فقد عُثر على جثته والنصف الأسفل منها محروقا، ما جعل البعض يعتقد أنه مات متأثرا بحروق، ولكن الدكتور يوسف الجندي، مفتش الصحة بالجيزة، أثبت في تقريره أن الفقيد لم يمت مختنقا بالغاز، وأن الحروق ليست سببا في وفاته.
وبحسب ما تداولت بعض المواقع الإخبارية عن مقربون من حمدان، فإنه تم اختفاء مسودات بعض الكتب التي كان حمدان بصدد الانتهاء من تأليفها، على رأسها كتابة عن اليهودية والصهيونية.