محمد بن سلمان وعرش السعودية.. بداية حقبة أم نهاية أسرة؟ (تحليل)
لم يقاتل الأمير محمد بن نايف دفاعا عن منصبه كولي عهد للسعودية، لكنه في نفس الوقت لم يتنح عن أحقيته في العرش، لذا صدر الأمر الملكي بإعفاء بن نايف من جميع مناصبه، دون الإشارة إلى أن ذلك جاء "بناء على طلبه"، ما يعني أنه أقيل ولم يتنازل.
ولأقل من 30 ثانية ظهر ولي العهد الجديد الأمير "محمد بن سلمان" بصحبة "بن نايف"، حيث أشارت وسائل الإعلام السعودية إلى أن "بن نايف" قدم البيعة لولي العهد الجديد، لكن بن نايف اكتفى بجملة واحدة: "أنا أرتحت.. وأنت الله يعينك". كما يظهر الفيديو أن "بن سلمان" هو من ذهب إلى بن نايف وليس العكس، كما هو العادة في تقديم البيعة، لكن كسر القاعدة هنا يمكن تفسيره بفارق السن ومراعاة الخواطر.
لماذا أعفي "بن نايف" من منصبه، وهو الرجل القوي الذي أحكم قبضته على أمن المملكة لسنوات طويلة.. سؤال لا يتوقع أن تصدر إجابة رسمية عنه في "مملكة الصمت". كما أن السؤال يجر معه سؤالاً ثانيا أكثر إلحاحا، وهو: لماذا لم يقاتل بن نايف دفاعا عن عرشه المنتظر، خاصة أن كل التكهنات كانت تشير إلى أنه الخيار المفضل أمريكيا لحكم السعودية، فضلا عن كونه ركنا مهما في الأسرة الحاكمة، ومحل احترام كبارها.
صعود متوقع
تعيين محمد بن سلمان وليا للعهد، خلا من صيغة "ولي ولي العهد"، التي استحدثها الملك السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، وهو أمر منطقي، فـ"ولي العهد" الجديد يبلغ من العمر 32 عاما، ومن الترف الترتيب حاليًّا لمن يليه في ترتيب تولي العرش، فضلًا عن أن الأمير الشاب من القوة والنفوذ، بحيث يضمن ألا يقاسمه أحد السلطة في الوقت الحالي، على أن يتولى هو بنفسه اختيار ولي عهده، في الوقت المناسب وبالصيغة التي يريدها.
وعلى عكس الخروج السلس والمحير لمحمد بن نايف من الحكم، فإنّ صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد كان متوقعًا، والسؤال فقط كان عن التوقيت، وحتى هذا جاء مبكرًا عن معظم التوقعات، فالحشد الدولي الواسع الذي صاحب زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمملكة في مايو الماضي، وما نتج عنها من اتفاقات ثنائية بين واشنطن والرياض تجاوزت قيمتها 350 مليار دولار، كل ذلك كان بمثابة تدشين عملي، بمباركة أمريكية، لكون بن سلمان هو الرجل القوي في المملكة، وصانع سياستها الخارجية والاقتصادية، وبقي فقط إزاحة بن نايف، ليصبح هو أيضًا المتصرف الوحيد في السياسة الداخلية، وهو ما كرسته قرارات اليوم.
يأس أم قبول؟
العبارة الوحيدة التي تبادلها "بن نايف" مع "بن سلمان" خلال "فيديو المبايعة"، تشير إلى أنه يائس ومتعب أكثر من كونه راضيًا ومتحمسًا، فالتهميش الذي عاناه منذ تعيينه وليا للعهد وصل إلى حد الإلغاء، ففي البداية تم دمج ديوان ولي العهد مع الديوان الملكي، وبذلك تم حرمانه من الأداة التنفيذية لممارسة مهام منصبه، فيما استحوذ "بن سلمان" على ملفي الاقتصاد والسياسة الخارجية، إضافة لملف الدفاع.
وفي الأيام الأخيرة امتد الحصار ليشمل الملف الأمني، الذي يديره بن نايف سواء مع والده أو بمفرده منذ أكثر من 30 عامًا، حيث تم قبل أسابيع إنشاء مركز الأمن الوطني، على أن يتبع للملك مباشرة، ثم صدر أمر ملكي بنقل تبعية هيئة التحقيق والادعاء (النيابة العامة) من وزير الداخلية إلى الملك شخصيًا، أما الأمر الأكثر تقزيما لدور بن نايف، فقد تمثل في عزل مدير الأمن العام وتعيين بديل له، مقربا من الملك، أي حرمان ولي العهد حتى من إدارة ملفات وزارته.
ورغم أنه لا توجد أي معطيات رسمية عن الخلفيات التي دفعت "بن سلمان" للانتقال السريع من حصار بن نايف إلى عزله كلية، إلا أن الأمر الملكي يشير إلى أن الملك هو من طرح على هيئة البيعة "مبررات" عزل بن نايف وتعيين بن سلمان بدلا منه، وأن ذلك جاء حرصًا على "تحقيق الوحدة واللحمة الوطنية"، و"رعاية لكيان الدولة ومستقبلها"، وفقا لنص المرسوم الملكي.
والحديث عن تحقيق الوحدة واللحمة الوطنية، يستشف منه أن بن نايف لم يكن موافقا على طريقة إدارة الحكم في المملكة، وهو الأمر الذي أشارت إليه بالفعل تقارير صحفية، سواء فيما يتعلق بالحرب في اليمن أو التصعيد الأخير مع قطر.
اختلال التوازن
وعلى الجانب الآخر، فإن حجم النفوذ والصلاحيات التي صارت بيد الأمير محمد بن سلمان لم تتح لأي من حكام آل سعود منذ الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، حيث كان من المعتاد أن يتم توزيع مكامن النفوذ والسلطة بين عدد من كبار الأمراء، بما يحدث نوعا من التوازن داخل الأسرة الحاكمة، ويراعي حساسيات وحضور، حتى الفروع الأخرى خارج أبناء عبد العزيز.
أما في الوضع الحالي، فإنّه لا يوجد أي شخص مؤثر من الأسرة الحاكمة يتولى أي منصب مهم، فهذه المناصب إما يديرها وزراء تكنوقراط من خارج الأسرة، تحت إشراف بن سلمان، أو بيد أمراء صغار، من جيل الأحفاد وأبناء الأحفاء، أيضًا اختارهم بن سلمان بنفسه ويخضعون لنفوذه، كما هو الحال مع وزير الداخلية الجديد، الذي يخلو سجله من أي خبرة في مجال الأمن أو حتى في مجال الإدارة الحكومية بشكل عام.
ورغم أنَّ البعض يضفي هالة أسطورية على قدرات الأمير محمد بن سلمان التي جعلته يشق طريقه سريعًا نحو العرش مطيحا بكل منافسيه، إلا أن المشهد ليس بهذا التبسيط، فالأمير الشاب يعتمد أساسا على قدرته على التأثير على والده الملك سلمان، وهو أمر معتاد مع أبناء ملوك آل سعود السابقين، إلا أن أيًّا منهم لم يتحرك الحبل على الغارب لأنجاله كما يفعل سلمان مع نجله المدلل "محمد".
فالملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، فرغم نفوذه الطاغي والكاريزما التي كان يتمتع بها، ومع أنّه منح أنجاله العديد من المناصب المهمة، لكنه لم يقدم على الإطاحة بشقيقه ولي العهد الأمير "سلمان بن عبد العزيز"، رغم أن التقارير عن إصابته بالخرف والزهايمر كانت شائعة في الإعلام الغربي، خشية شق صف الأسرة المالكة وإطلاق صراعات القصور، التي كانت سببا في سقوط الدولة السعودية الثانية، واحتلال آل رشيد لعاصمتهم الرياض.
محور إماراتي
أما الأمر الثاني المهم في صعود الأمير محمد بن سلمان، فهو ارتباطه بمحور إقليمي تتزعمه الإمارات ورجلها القوي محمد بن زايد، الذي يقال إنه بمثابة المرشد والموجه السياسي لولي العهد السعودي، ورغم أن هذا المحور بدأت بذرته في ظل حكم الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، مستهدفا منع وصول ثورات الربيع العربي للأنظمة الملكية الخليجية والعربية، وهندسة تفاعلات بلدان الربيع العربي، بما يوقف الصعود القوي لحركات الإسلام السياسي، إلا أن الرياض فتر حماسها للأمر بعدما استقرت الأمور في مصر، التي شكلت محور الاهتمام الأبرز للملك السعودي الراحل.
ورغم أن الملك سلمان بدأ حكمه بتوجهات معاكسة لذلك المحور، إلا أن بن زايد سرعان ما نجح في استقطاب محمد بن سلمان لصالح محوره، مداعبا طموحه الجامح في الوصول لسدة الحكم، وهو ما تجسد في انخراطهما معا في حرب اليمن.
وعندما تحول اليمن إلى مستنقع، وتبددت أحلام "بن سلمان" في اقتناص نصر سريع يعزز موقعه في هيكل الحكم، طور "بن زايد" مجال محوره ليتحول إلى تحالف إقليمي دولي، يستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة، تارة تحت شعار "مواجهة إيران" ونقل المعركة إلى أرضها، وتارة أخرى تحت مسمى "صفقة القرن" عبر تسوية للقضية الفلسطينية، تسمح بضم إسرائيل للتحالف المناهض لإيران، وتارة ثالثة تحت لافتة "محاربة الإرهاب"، بهدف مغازلة الغرب وعزل حركات الإسلام السياسي.
تحديات محلية وخارجية
وهكذا فإن ولي عهد السعودية، ورجلها القوي، بات عليه مواجهة تحديين أساسيين: الأول مواجهة النتائج المترتبة على حصر الحكم في سلمان وولده، وما يعنيه ذلك من صراعات وحساسيات داخل الأسرة المالكة، فالمتضررون من صعود بن سلمان داخل الأسرة ليسوا قلة، وإن كان خروج محمد بن نايف بهذه السهولة من الحكم، يلقى الضوء على محدودية الثقل الذي يمكن أن تمارسه الأسرة لضبط دفة الحكم، يضاف لذلك ما شهدته التعيينات الأخيرة من مجاملات لأبناء العائلة وفروعها القلقة، في محاولة لتحييدها عن صراع العرش.
أما التحدي الثاني، فيتمثل في التبعات المترتبة على انخراط المملكة في محور "محمد بن زايد" ومشروعه الإقليمي، فهل تقدر المملكة على تبعات نقل المعركة إلى الداخل الإيراني كما هدد بن سلمان مؤخرا، وهل يستطيع ولي العهد إقناع السعوديين بالتطبيع مع إسرائيل، باعتبارها شريكا في "صفقة القرن"، وحليفا في مواجهة إيران، وهل يستطيع الخروج من مستنقع اليمن، وكسب الصراع مع قطر، خاصة أن ما أهدره "بن سلمان" من القوة الناعمة للمملكة في أقل من عامين ليس بالقليل، ويكفي مطالعة دروس الحكمة والتعقل التي تلقتها الرياض من حلفاء أقل منها وزنا وثقلا، على خلفية الأزمة مع قطر.
نجاح "محمد بن سلمان" في إدارة دفة الحكم، التي قد يتولى مقاليدها رسميا في وقت ليس ببعيد، يعني بدء حقبة جديدة في حكم آل سعود، لأن توجهات وسياسات الرجل تختلف تماما عمن سبقوه، خاصة أن سنوات عمره القليلة تؤهله حكم مديد، في حين أن الفشل ربما يكبد آل سعود خسارة دولتهم الثالثة، فمغامرات الرجل قاتلة، وعقلاء آل سعود، وآخرهم بن نايف، تواروا إلى الظل.