في ذكرى ميلاده
محمود السعدني.. الولد الشقي في «رحلة العذاب والضنى» ببلاط صاحبة الجلالة
كان "يشم رائحة الورد بين ماكينات الطباعة، ويجري في عروقه حبر أحمر".. هكذا قال الولد الشقي "محمود السعدني" عن نفسه، والذي يمر اليوم 20 نوفمبر ذكرى ميلاده، ذلك الذي كان أحد رواد الكتابة الساخرة في الوطن العربي.
فلم يكن "محمود السعدني" مجرد صحفي في بلاط صاحبة الجلالة، ولكنه كان حكاء عظيما، يمتاز بخفة الظل، وترك من ورائه تجربة ثرية في الكتابة الساخرة، حتى لقبه البعض بـ"آخر الظرفاء، وملك الساخرين".
ولد السعدني بمحافظة الجيزة في الـ 20 من نوفمبر عام 1927، واعتبر نفسه ابنا بارا لبيرم التونسي، وكامل الشناوي ومحمد التابعي، وزكريا الحجاوي، ومأمون الشناوي، فجميعهم رموز في بلاط صاحبة الجلالة.
عاش السعدني مسيرة طويلة بالعمل الصحفي، شارك خلالها في تحرير وتأسيس عدد كبير من الصحف والمجلات العربية في مصر وخارجها.
وخلال رحلته في عالم الصحافة تعرض الولد الشقي للاعتقال والنفي، وحين منع السادات ذكر اسمه في الصحف والمجلات، أبى أن يمتهن غير الصحافة، فقال حينها :"أي حياة ستكون حياتي، لقد خلقني الله صحفيا أشم رائحة الورد بين ماكينات الطباعة، ويجري في عروقي حبر أحمر، كنت صحفيا، وسأبقى صحفيا، وسأموت صحفيا، وسأبعث يوم القيامة في كشف نقابة الصحفيين".
صدمة البداية الصحفية
عمل السعدني في بدايات حياته الصحفية في عدد من الجرائد والمجلات الصغيرة، التي كانت تصدر في شارع محمد علي بالقاهرة.
بدأ السعدني أول تجربة صحفية له كمحرر في مجلة "الضباب" لصاحبها عامل الطباعة كامل خليفة، الذي كانت مجلته مأوى للنصابين والمحتالين، بل كان خليفة نفسه نصابا ينتظر التعديلات الوزارية ليحصل على الإعلانات الحكومية، ويطبع تذاكر لحفلات خيرية يتقاضى ثمنها من جيوب الأثرياء إلى أن تم القبض عليه بتهمة النصب، حسبما روى محمد سعد عبد الحفيظ، في مقال له على "أصوات أون لاين"، حول ذكرى ميلاد الولد الشقي.
يروي السعدني عن تجربته في الضباب "خرجت من تجربتي الأولى في الصحافة بحسرة، وفقدت تلك الصورة زاهية الألوان عن صاحبة الجلالة وبلاطها، وأدركت أن البلاط هو الواجهة ولكن في القفا بدرونات ومزابل ومطابخ ذات رائحة عفنة".
انتقل السعدني إلى مجلة "نداء الوطن" واصطدم بصاحبها، وتوجه مع صديقه طوغان إلى "الكشكول"، واستمر فيها ثلاثة شهور نشر خلالها أزجالًا ومقالات ثم أغلقت أبوابها.
ثم ذهب إلى صديقه القديم زكريا الحجاوي ليعمل معه في مجلة "الوادي"، وفشل هناك فشلا ذريعا دفعه إلى اليأس بل والتفكير في الانتحار.
ولم يلبث إلى أن انتقل السعدني إلى مجلة "واحدة ونص" وكانت ضاحكة وساخرة وجذابة، ويترأس تحريرها كامل الشناوي وصلاح عبد الجيد، وأصبح محررا بالمجلة بمرتب شهري ستة جنيهات، لكنه لم يحصل على المرتب إلا مرة واحدة رغم عمله خمسة شهور كاملة.
وكذلك عمل السعدني بجريدة "المصري" لسان حال حزب الوفد آنذاك، وعمل لفترة قصيرة في دار الهلال، ثم أصدر مع رسام الكاريكاتير طوغان مجلة هزلية سرعان ما تم إغلاقها بعد أعداد قليلة.
بعد ثورة يوليو
كان السعدني من مؤيدي ثورة 23 يوليو 1952، والتحق بعد الثورة للعمل بجريدة الجمهورية، التي أصدرها مجلس قيادة الثورة، التي كان يترأس مجلس إدارتها أنور السادات ورئيس تحريرها كامل الشناوي.
ولما تولي السادات منصب رئاسة البرلمان في هذه الأثناء، تم الاستغناء عن خدمات محمود السعدني من جريدة الثورة، كغيره من زملائه على رأسهم بيرم التونسي وعبد الرحمن الخميسي.
وبعد الاستغناء عن السعدني من جريدة الثورة، التحق للعمل بمجلة روز اليوسف الأسبوعية الخاصة كمديرا للتحرير، والتي كان يرأس تحريرها آنذاك إحسان عبد القدوس، الذي كان تملك أمه "فاطمة اليوسف" المجلة.
رحلة العذاب والضنى
في شتاء عام 1975، أرسلت جريدة الجمهورية محمود السعدني إلى سوريا كمراسلا لها في دمشق، والتي كانت سببه بعد ذلك في فصله من جريدة الجمهورية، فهي كما أسماها السعدني في كتابه الطريق إلى زمش، بإنها كانت رحلة العذاب والضنى.
يقول السعدني عن تلك الرحلة :"كانت دمشق وقتئذ واحة الديمقراطية والحرية وحلبة الآراء المتصارعة فى العالم العربي، وكان زعماء الحزب الشيوعى العراقى يعيشون فى دمشق هربا من جحيم نورى السعيد، وقدر للعبد لله أن يجتمع بهم عدة مرات".
واستطرد :"في إحدى المرات طلبوا مني توصيل رسالة إلى الرئيس عبد الناصر، فقلت لهم: لكني لا أعرف عبد الناصر ولم أقابله من قبل، لكنهم لم يقبلوا ذلك فقد تخيلوا أنني من كبار المسئولين".
وبعد أسبوعين من تسلمه رسالة الحزب الشيوعى العراقى عاد السعدني إلى القاهرة، والتقى برئيس مجلس إدارة الجمهورية أنور السادات وأخبره بأمر الرسالة المغلقة، وبدروه سلم السادات الرسالة إلى الرئاسة.
وفوجيء السعدني بقرار فصله من "الجمهورية" مع عدد من كبار الصحفيين منهم عبد الرحمن الخميسي وبيرم التونسي، وعلم حينها أن السبب هو الخطاب الذى حمله من دمشق للرئيس جمال عبد الناصر، ولم يكتشف هذه المسألة إلا بعد ذلك بزمن طويل.
وبعد ذلك عاد للعمل في روز اليوسف، بعد تأميمها، ثم تولى رئاسة تحرير مجلة صباح الخير، وفي هذه الأثناء انضم إلى التنظيم الطليعي وكان له نفوز كبير في تلك الفترة.
في سجن القعلة
ظن السعدني ان انتقاله للعمل في "روز اليوسف" قد فتح له الأبواب، وأن الحياة صفت له، ولكن لم يكن يعلم أن المصائب لم تبدأ بعد، إذ كانت تنتظره نوائب يقول عنها إنها :"كسرت ظهري ولونت حياتي بلون الهباب".
يقول الولد الشقي :"في ليلة رأس السنة لعام 1959 شنت أجهزة الأمن حملة اعتقالات واسعة ضد الشيوعين المصريين، واعتقلت عشرات من المثقفين اللامعين وبعض القيادات العمالية، ولم تحل نهاية شهر مارس حتى كانت الحملة قد بلغت أوجها بين حكومة مصر وحكومة العراق، وبلا مقدمات وجد السعدني نفسه في سيارة تتجه به من قسم الجيزة إلى سجن القلعة".
يصف السعدني أيامه الأولى في سجن القلعة:"لمدة ثلاثة أيام لم يفتح فيها الباب لحظة واحدة إلا وقت تسليم الوجبات، أما بقية الوقت فالباب مغلق، والنافذة أضيق من صدر الكافر".
الطريق إلى زمش
وانتقل السعدني إلى معتقل الفيوم، ثم انتقل إلى سجن الواحات، وهناك نال صنوفا من التعذيب لم يسمع بها من قبل، واستقبله هناك صديقه الكاتب الصحفي صلاح حافظ الذي سجن عام 1954.
في الواحات، وجد السعدني أن الرفاق الشيوعيين منقسمين في تنظيمات وكل تنظيم له قيادة تتفاوض مع قيادة السجن وقت الحاجة، ففكر في تأسيس تنظيم.
وعنه روى السعدني :""كان اسم تنظيمنا الذي اهتديت إليه هو على وجه التحديد – زاي ما أنت شايف – أخذت الحروف الأولى من الكلمات الثلاث (ز م ش)، وبالفعل قامت زمش، واشتهرت ودخلت التاريخ وتولى العبد لله منصب سكرتير عام زمش، يعني رأسي برأس خروشوف على طول".
وكثر الحديث بين السجناء عن زمش"، واستدعى مأمور السجن السعدني، وذهب له منكوش الشعر وبلحية طويلة وثياب متسخة وممزقة، سأله المأمور: يعنى إيه "زمش" يا روح أمك، فرد عليه: زمش اختصار لـ"زى ما أنت شايف"، فضحك المأمور السجن وتركه يذهب.
وفي خاتمة كتاب "الطريق إلى زمش"، يقول السعدني: على كل حال بقدر العذاب الذي عانيناه في السجن مع الشيوعيين فإن الفائدة التي خرجنا بها كانت بقدر المعاناة، وهي فترة بالرغم من كل شيئ أفخر وأعتز بها، ولو عادت الأيام من جديد لتمنيت أن أخوضها وكما حدثت من قبل بالتمام و الكمال.
واستطرد :"الحقيقة أن الفترة التي قضيتها معهم قد أثرت تجربتي وأضافت إلى ثقافتي، كما أنها أنضجتني سياسيا وجعلتني أعمق فهما وأشد صبرا وأطول نفسا مما كنت عليه، باختصار خرجت من سجن الواحات سعدني آخر غير الذي كان".
ورغم ما عاناه السعدني في سجون العهد الناصري، ألا أنه كان ناصريا حتى النخاغ، إذ يقول:""إذا كان هيكل السفير الناصري في الدوائر العالمية والدبلوماسية، فالعبد لله بدون تواضع هو السفير الناصري إلى مصاطب الفلاحين ومصانع العمال ومقاهي الصياع وقعدات فتوات المدبح وجدعان الحسنية".
الصراع مع السادات
عقب وفاة عبدالناصر حدث صراع على السلطة بين الرئيس أنور السادات وعدد من المسؤلين المحسوبين على التيار الناصري، مثل شعراوي جمعة وسامي شرف ومحمود فوزي وغيرهم.
انتهى الصراع باستقالة هؤلاء المسؤلين، واعتقالهم من قبل السادات، وتقديمهم للمحاكمة بتهمة محاولة الانقلاب، وكان اسم محمود السعدني ضمن أسماء المشاركين في هذا الانقلاب وتمت محاكمته أمام "محكمة الثورة" وأدين وسجن.
وكما روى السعدني في مذكراته، في إن الرئيس الليبي معمر القذافي، حاول التوسط له عند السادات للإفراج عنه، إلا أن الأخير رفض الوساطة، وقال:"السعدني قد أطلق النكات علىّ وعلى أهل بيتي "، يقصد زوجته جيهان السادت، ويجب تأديبه ولن أفرط في عقابه".
وبعد قرابة العامين تم الإفراج عن السعدني، ولكن استمر السادات في عقاب السعدني، إذ صدر قرار جمهوري بفصله من مجلة صباح الخير، ومنعه من الكتابة ومنع ظهور اسمه في أي جريدة مصرية حتى في صفحة الوفيات.
في المنفى
لم يجد السعدني أمام تعنت السادات معه، إلا أن يغادر مصر ويعمل في الخارج، فتوجه إلى بيروت في منفى اختياري، حتى أن استطاع الكتابة بصعوبة في جريدة السفير اللبنانية بأجر قليل، إذ كان معظم أصحاب الدور الصحفية في بيروت يرفضون توظيف السعدني خوفا من غضب السادات.
وقبل اندلاع الحرب الأهلية غادر السعدني إلى ليبيا للقاء القذافي، والذي عرض عليه إنشاء جريدة أو مجلة له في بيروت، إلا أن السعدني رفض ذلك خوفا من اغتياله على يد تجار الصحف اللبنانيين، والذين سيرفضون بالتأكيد هذا الوافد الجديد والذي سيعد تهديدا لتجارتهم الرائجة.
وأثناء الحوار، سخر السعدني بدون قصد من جريدة القذافي "الفجر الجديد" ونعتها بالـ"الفقر الجديد"، عندما عرض عليه القذافي الكتابة فيها، وانتهى لقائه معه بدون نتيجة.
في أبو ظبي
في عام 1976 وصل السعدني إلى أبوظبي للعمل كمسئول عن المسرح المدرسي في وزارة التربية والتعليم في الإمارات، ويبدو أنه لم ترق له الفكرة، لذا قبل بالعرض الذي تقدم به عبيد المزروعي وهو إدارة تحرير جريدة الفجر الإماراتيه.
كان العرض مقامرة سياسية جازف بها عبيد المزروعي، بخاصة وأن السعدني وضع شروطا مهنية قاسية، أهمها عدم التدخل في عمله وهو الشرط الذي يبدو أنه تسبب بعد أقل من أربعة أشهر بمصادرة أحد أعداد جريدة الفجر من الأسواق بسبب مانشيت أغضب السفارة الإيرانية في أبوظبي، وكان إيران يومها تطالب بالإمارات كلها وتعتبرها من "ملحقيات إيران".
لذا لم تغفر سفارة إيران للسعدني رفعه شعار "جريدة الفجر جريدة العرب في الخليج العربي"، وطالبت السفارة الإيرانية صراحة حذف صفة "العربي"، عن الخليج لأنه خليج فارسي كما يزعمون.
وتعاقد محمود السعدني مع منير عامر من مجلة "صباح الخير" القاهرية، ليتولى وظيفة سكرتير التحرير وليدخل إلى صحافة الإمارات مدرسة صحافية مصرية جديدة هي "مدرسة روزاليوسف" بكل ما تتميز به من نقد مباشر وتركيز على الهوية القومية والابتعاد قدر الإمكان عن التأثير المباشر للحاكم وصانع القرار.
حائر في الخليج العربي
وبعد ضغوط إيرانية على حكومة الإمارت اضطر السعدني إلى مغادرة أبوظبي إلى الكويت، حيث عمل في جريدة السياسة الكويتية مع الصحفي أحمد الجار الله، ولكن تلك الضغوط لاحقته هناك أيضا.
غادر السعدني الكويت إلى العراق ليواجه ضغوط من نوع جديد، وهي ممارسات الموظفين العراقيين المسؤولين في مكتب مصر بالمخابرات العراقية الذين مارسوا ضغوطا كبيرة عليه لإخضاعه، فكان قراره بعد لقاء مع نائب الرئيس العراقي في ذلك الوقت صدام حسن بمغادرة العراق إلى لندن.
مجلة 23 يوليو
بتمويل غير معلن من حاكم الشارقة الحالي، تمكن السعدني بالاشتراك مع محمود نور الدين "ضابط المخابرات المصري المنشق على السادات"، والكاتب الصحفي فهمي حسين، مدير تحرير روز اليوسف الأسبق ورئيس تحرير وكالة الأنباء الفلسطينية، وفنان الكاريكاتير صلاح الليثي وآخرين من إصدار مجلة 23 يوليو في لندن.
كانت مجلة 23 يوليو أول مجلة عربية تصدر في لندن، وحققت نجاحا كبيرا في الوطن العربي وكانت تهرب إلى مصر سرا.
والتزمت المجلة بالخط الناصري وكان السعدني يتوقع أن تلقى المجلة دعماً من الأنظمة العربية الرسمية إلا أن ذلك لم يحدث، وحوصرت المجلة ماليا من أنظمة دول ترفع شعارات عروبية مثل العراق وليبيا وسوريا، وعلى حد تعبير السعدني "كان يجب على أن أرفع أي شعار إلا 23 يوليو لأحظى بالدعم".
انهارت 23 يوليو وتوقفت عن الصدور، وعاد السعدني وحيدا يجتر أحزانه في لندن إلى أن اغتيل أنور السادات في حادث المنصة الشهير في 6 أكتوبر 1981.
العودة إلى مصر
عاد السعدني إلى مصر بعد اغتيال السادات بفترة، واستقبله الرئيس مبارك في القصر الجمهوري بمصر الجديدة، ليطوي بذلك صفحة طويلة من الصراع مع النظام في مصر.
واستمرت مسيرة الولد الشقي الصحفية حتى عام 2006 حتى اعتزل العمل العام والحياة الصحفية بسبب المرض، حتى توفي في 4 مايو عام 2010، إثر أزمة قلبية حادة، ولكنه ترك مذكراته الثرية بالكتابة الساخرة والمواقف والأحداث الشاهدة على أزمنة الرؤساء الثلاث الذي عايشهم "الولد الشقي".
ومما كتب السعدني عن سيرته الذاتية "الولد الشقي جزء 1، وجزء 2، والولد الشقي في السجن، والولد الشقي في المنفى، والطريق إلى زمش".
ومن أبرز أقواله :"لدينا حروب محلية صنع بلدنا، القتلى فيها من أبنائنا، والأسرى فيها من أولادنا، ونحن فيها المنتصرون والمنهزمون"، "يثبت العرب دائمًا تقدمهم في التراجع إلى الخلف، حتى إنهم لا يسمحون لأحد أن يسبقهم إلى الوراء"، "لا تبحث عن محامٍ يعرف القانون، بل ابحث عن محامٍ يعرف القاضي".