خاطرة الجزء التاسع
قرية مسخ الله أهلها قردة.. تعرف عليها
على غير عادة القصص القرآني التي تنتهي بإهلاك الظالمين، نجد هذه القصة.. فعادة قصص الإهلاك يكون من أبطالها طرف مؤمن مستضعف أو مغلوب أمام طرف ظالم مستكبر سواء أكان ملكا ظالما أم ملأ من القوم فاسدا.
لكن في هذه القصة لا نجد هذه الأطراف، بل هي مجتمعية بامتياز، فكل أطرافها من أصلٍ واحدٍ، مجتمعٍ انقسم ثلاث فرق أمام الفساد المستشري فيه.
وأحداث القصة وقعت في قرية على ساحل البحر يعمل ساكنوها من بني إسرائيل في مهنة الصيد، قيل اسمها أيلة على ساحل البحر الأحمر الشرقي.
ولما كانوا يعظمون يوم السبت أراد الله تعالى أن يبتليهم فحرم عليهم الصيد فيه، فامتثلوا أول الأمر، حتى جاءهم البلاء الشديد بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت كأنها أشرعة مراكب، وغير يوم السبت لا تأتي بل تغوص في البحر فلا يرونها، ولا يستطيعون صدها.
فعمد أحدهم إلى حيلة بأن نزل البحر يوم السبت وربط حوتا في حبل ثم شده إلى وتد على الشاطئ ولم يستخرجه إلا يوم الأحد، ثم شواه وأكله.
وهنا تساءل الناس كيف استطاع الصيد ونحن لم نستطع فأرشدهم إلى حيلته، فقلده قوم من أهل القرية.
ثم انقسم المجتمع بعدها إلى ثلاث فرق:
الفريق الأول الذي احتال للصيد في يوم السبت.
الفريق الثاني وهم قوم رأوا هذا احتيالا على شرع الله فقاموا بواجبهم نحو دينهم، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
الفريق الثالث قوم سلبيون، لا نهوا عن المنكر ولا سكتوا عمن ينهى عن المنكر، بل قاموا يجادلونهم يقولون للمدافعين عن الدين "لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا" فأجابوهم "قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون".
ثم لما لم يرتدعوا أنجى الله تعالى الذين ينهون عن السوء وعاقب المعتدين بأن جعلهم قردة خاسئين.
أما الفريق الثاني السلبي فلم يأت له ذكر، فهل عوقب مع المعتدين أم غير ذلك؟ الله تعالى أعلى وأعلم، وإن كنت أرجح أنهم هلكوا مع الهالكين، وذلك لقيام العموم في أدلة الشرع أن مجرد تجنب الفساد لا يصل بالإنسان إلى النجاة من عموم العقاب عليه، إلا يجهر بقول الحق.
قال تعالى:
"واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ" (الآيات من 163 – 166 من سورة الأعراف).
الدروس من القصة:
1- الأطراف ليس فيها حاكم ظالم، بل هو مجتمع منقسم حول الفساد، فريق فاسد وفريق مصلح وفريق سلبي.. وهذا شأن أي فساد مجتمعي في أي زمن، فانظر أخي الكريم: من أي الفرق الثلاث أنت بشأن الفساد في مجتمعك؟
2- الاحتيال على الحرام بضبط الصورة الخارجية لا يغني شيئا إذا كان المضمون محرما، فالعبرة في الحكم على الأمور بمضامينها لا بصورتها الظاهرة فقط، وإن كانت الصورة جزءا من الكنه لكنها ليست الحقيقة، إنما الحقيقة في المضمون.
3- أن الفساد قد يعتمد أحيانا على فلسفة ظاهرها براق وربما انخدع بها الكثيرون، لكنها جوفاء خاوية لا تقوم أمام الحجة والدليل الشرعي القاطع.
4- أن النجاة من عقاب الله تعالى بشأن أي فساد مجتمعي لا تكون إلا بالقيام بالواجب بحسب ما يقتضيه الدين والشرع، من تجنب الفساد وعدم المشاركة فيه والنهي عنه.
5- أن تغيير الفساد المجتمعي لمن لا يملك السلطان يجزئ المرءَ فيه أن يقوم بواجب النصيحة والبيان، وليس معنيا بتغييره بالقوة، إلا أن يكون صاحب سلطان.
6-أن السكوت عن الفساد قد يشمل الساكتين بعقاب الله تعالى، وفي الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه أنه خطب الناس يوما فقال: أيها الناس إنكم تقرؤون آية من كتاب الله تعالى وتضعونها في غير موضعها "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم أو ليوشكن الله أن يعمكم بعذاب".
وقال تعالى في شأن قوم من بني إسرائيل لعنوا على لسان أنبيائهم مبينا السبب "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوم لبئس ما كانوا يفعلون".
7- إذا لم تكن يا أخي من المصلحين فلا أقل من أن تمسك عن أذاهم ومجادلتهم فيما يقومون به من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تكن كقوم يقولون "ليس لك شأن بالناس ودع حسابهم على الله" فهذا كلام خادع لا حق فيه.