خاطرة الجزء الحادي عشر
الثلاثة الذين خلفوا.. نموذج مثالي للتوبة الصحيحة
التوبة هي جسر المسلم إلى عفو الله عز وجل حين تغلبه نفسه فيقع في المعاصي.
لكن التوبة ليست لفظا باللسان فقط كما يخدع البعض نفسه، إنما التوبة شعور بالندم حقيقي، واعتراف بالخطأ كامل، وطلب العفو في مذلة من رب العباد سبحانه وتعالى.
وفي هذه الآيات من سورة التوبة يطلعنا المولى سبحانه على خلجات النفوس الكامنة في صدور ثلاثة من الصحابة وقعوا في ذنب التخلف عن رسول الله في غزوة تبوك.
قال تعالى "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم" (التوبة: 117، 118).
وهذه الحال في نفوس هؤلاء الثلاثة إنما كانت نتيجة الصدق في الاعتراف أمام الله تعالى بسوء الفعل، ولنسمع إلى كعب بن مالك وهو يخبرنا بما في نفسه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أخرج البخاري في حديث طويل:
"...قال كعب بن مالك فلما بلغني أن رسول الله توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه".
يقول كعب: "وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله".
ثم يقول: "فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال (تعال) فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي (ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟) فقلت بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك).
ويكمل كعب: "فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي...".
فيا أخي الكريم، إن أذنبت فاعترف وإياك أن تبرر لنفسك أو أن يصحب طلبَك المغفرةَ عذرٌ مقرون كأن تقول "اللهم اغفر فإن الأمر كان صعبا عليّ" أو "اللهم اغفر لي فكثير من الناس يفعل مثل فعلي"، فمثل هذا والله سوء أدب واستكبار عن الاعتراف أمام الملك، أما الاعتراف فدليل انكسار أمام جلال الملك سبحانه.
ولست أعلى شأنا من يونس عليه السلام حين نادى "في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، هكذا دون أعذار أو مبررات.
واعلم أن شعور الخوف المخلوط برجاء هو الحال التي يرضاها الله تعالى منك، ففي الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أذنب عبد ذنبا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أنه له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب، اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفر لك".
فاحذر تقديم العذر بين يدي الاستغفار؛ فإنه ينافي الأدب في حضرة الجبار، بل أعلن ذنبك وخوفك ثم أعلن ندمك وطمعك، فبهذا تصل إلى رحمة الله وتنالك نفحة من خزائن مغفرته وعفوه.