«المومياء» فيلم يقاوم هزيمة يونيو.. وينتصر للإنسان البسيط
وقعت هزيمة يونيو 67 كالصاعقة على قلوب وعقول المصريين، وكان الشعب ينتظر أي فرصة ليأخذ بثأره من العدو.
وفي عام 1969، -بعد النكسة بعامين- كانت القاهرة تتجمل حينها للاحتفال بعيدها الألفي، وقرر وزير ثقافتها ثروت عكاشة أن يمنحها أسبابًا للفرحة والبهاء، وقام هو والدكتورة سهير القلماوي بإقامة أول معرض للكتاب.
وجاء معرض الكتاب للتخفيف من واقعة النكسة الثقيلة على المصريين، ولإيمان المصريين بأن النكسة سيعقبها صحوة ونصر، وهو ما تجلى في إقامة المعرض بعدها ضمن مشروع إعادة البناء الشاملة، لتخطي الهزيمة ومقاومتها.
ولم يكن هذا الحدث الوحيد لمقاومة الهزيمة، ففي ذات العام عُرض فيلم "يوم أن تحصي السنين"، والمعروف بـ"المومياء" للمخرج شادي عبد السلام، ليعرضه معرض القاهرة الدولي للكتاب، في اليوبيل الذهبي.
ولأول مرة، صنع شادي عبد السلام - المعروف بوطنيته الشديدة وعشقه لتراب هذا الوطن - هذا الفيلم لمقاومة الهزيمة، ولغرس روح الأمل في المصريين من خلال فلسفته الخاصة، ولا عجب في تزامن كل ذلك مع حرب الاستنزاف 1967 - 1970، تلك الحرب التي أكدت على روح المصريين الأبية وعدم رضاها بالهزيمة، بل تجلت قوتها وشموخها في استبسالها في الدفاع عن أرضها، وإرهاق العدو، حتى تأتى لها النصر عام 73.
استندت فلسفة شادي عبد السلام على فكرة أساسية وهي أننا يمكننا أن نعيد مجدنا من جديد فقط إذا عدنا لماضينا التليد واستلهمنا منه روحنا الحقيقية.
وآمن شادي، بأن المصري اغترب عن تاريخه، اغترب عن ثلاثة آلاف عام من عمره، عن حضارته التي أدهشت العالم، بينما هو لا يعرف عنها شيئا، تلك الحضارة المُنسجمة تماما مع روحه لأن أجداده هم من وضعوا قواعدها، ولكن ملامح تلك الحضارة طمست بمرور الوقت، بتتابع ثقافات وحضارات قادمة من أراض أخرى استوطنت مصر، وباعدت بين المصري وحضارته الأصلية التي طواها النسيان.
كان شادي على قناعة بأنه يجب على المصري أن يستلهم مصريته ليسطر حاضره، وأنه سيبعث من جديد فقط إذا ما أدرك هويته الحقيقية واستعادها.
ويطرح شادي كل ذلك جليا في فيلمه، وتقوم الحبكة على الصراع الذي يتعرض له "ونيس" بعد وفاة والده، ويمثل ذلك الصراع مأزق الإنسان المصري المعاصر، وحين يموت سليم والد ونيس وسيد قبيلة الحربات، تحين لحظة توزيع إرث العائلة، يضطلع حينها ونيس للمرة الأولى على سر لم يعرفه من قبل حين يأخذه أعمامه إلى قلب الجبل حيث الخبيئة التي لا يعلم مكانها أحد سوى أسياد قبيلة الحربات التي استوطنت الجبل منذ خمسة قرون، فلا سكان الوادي يعلمون بأمر الخبيئة ولا مفتشو هيئة الآثار أو"الأفندية" كما يلقبهم سكان الجبل.
يرى ونيس وأخوه توابيت الأجداد أمامهما في جوف الجبل، وهنا تتفجر الأزمة ويتولد الصراع، فأخوه يرفض بشكل قاطع التكسب من التجارة بالأجداد، ويعلن اعتراضه على تلك التجارة، فتلعنه أمه لأنها ترى أنه انقلب على عقيدة قبيلتهم وعلى ما توارثوه عبر الأجيال، يصبح مصدر تهديد للعائلة، فيقتله عمه.
أما ونيس فيدخل في صراع نفسي نتيجة معرفته بمكان الخبيئة، فالمعرفة يتبعها مسئولية وألم، نراه في العديد من مشاهد الفيلم يسير في سراديب ضيقة، يتحرك فيها صعودًا وهبوطًا، مما يعبر عن تخبطه، ونراه يسير حائرًا وسط المعابد بكتاباتها القديمة، لا يستطيع فك طلاسمها.
ويستخدم شادي عبد السلام أحجام اللقطات الكبيرة، ويبدو ونيس فيها صغيرًا لا حول له ولا قوة، لكن رغم كل ذلك يشعر ونيس أن ثمة رباط بينه وبين تلك الحضارة، يدب بداخله حنين لذلك الماضي، يجد شيئا ما يصله بجذوره وأجداده اللذين خلفوا تلك الجدران والنقوش.
هنا يصبح ونيس انعكاسا لحال المصريين الذين اغتربوا عن تاريخهم القديم فلم يعد باستطاعتهم فهم لغة القدماء، ولا ثقافتهم، ولا دينهم، وصارت المعابد بالنسبة لهم أحجارًا، ولغة الأجداد طلاسمًا، والأجداد ذاتهم «رمادا أو خشبا من آلاف السنين» كما يصفهم قريبهم في الفيلم.
مأساة ونيس هي مأساة المصري المعاصر كما شخصها شادي عبد السلام، فأتى بـ"ونيس" رمزا، وأختاره إنسانا بسيطا، فالحضارة المصرية كان عمادها هؤلاء البسطاء،سمرته وملامحه تشبه ملامح قدماء المصريينالمنقوشة على جدران المعابد: عيناه اللامعتان، وجنتاه البارزتان ووجهه المنسحب في استطالة.
يجد ونيس نفسه فريسة لغواية أيوب تاجر الآثار ومراد، ذلك الشخص الوصولي الذي كان يعمل مساعدًا لأيوب فيما مضى، يعرض مراد على ونيس أن يأخذ كل المال لنفسه دون أن يشاركه مع أهله، فيرفض ونيس عرضه، كما رفض عرض أيوب، وعلى الجانب الأخر يحضر الأفندية إلى طيبة بعد ظهور بردية جنائزية في أسواق تجارة الآثار، مما يشير إلى وجود مقابر مجهولة للأسرة الحادية والعشرين يتم تهريب هذه الآثار منها. فماذا ونيس بفاعل؟.
في مشهد حاسم، نرى مراد يحاول إقناع ونيس بأن يبيعه ما بالخبيئة، فيتركه ونيس ويسرع نحو سفينة الأفندية ليعترف لهم بسر الخبيئة، فيما يجذبه مراد ليرده عن قراره، لحظة يحسم فيها ونيس أمره وينتصر فيها لمصريته، لجذوره وأصوله التي تمتد لآلاف السنين.
هكذا يرى شادي عبد السلام ونيسا الإنسان البسيط، غير المثقف، يراه معجونًا بحب أرضه وتاريخه، رافضًا للتفريط فيها، فلقد آمن بنبل الإنسان المصري البسيط.