قشة الغريق (2-10)
تحقيق| الجزيرة الخضراء: "لو بطلنا نهاجر نموت"
الصمت يخيم على شوارع القرية، يتخلله أصوت قرأن يُتلى في المنازل والمساجد، رائحة الموت تفوح من كل جانب، النساء يتشحن بالسواد، لايزال أنين الحزن ووجوع الفراق يسكن القلوب.
هنا في قرية الجزيرة الخضراء، بمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، اعتاد أهلها تقديم أطفالهم قربانا للبحر وكتأشيرة لعبور آخرين إلى إيطاليا، فإذا غرق أحدهم يسلك أخاه نفس الطريق للهجرة.
في كل بيت مهاجر
لا يخلو منزل بالقرية، التي تطل على ساحل كفر الشيخ الذي تخرج منه معظم مراكب الهجرة غير الشرعية، من شباب وأطفال مهاجرين يشقون طريق البحر إلى إيطاليا، وإذا ضلت المركب طريقها تتجه إلى اليونان وفيها يسلم المهاجرون أنفسهم إلى شبكات التهريب عابرة الحدود لتمكنهم من دخول أية بلدة أوروبية يشاءون.
في الطريق نصحنا سائق التوك توك، الذي اتخذناه من عند "معدية رشيد" إلى الجزيرة، بالعودة دون الحديث مع الأهالي خوفا علينا، مبررا أن الجزيرة بأكملها تعمل في "التهريب"، ليس فقط في المهاجرين غير الشرعيين، ولكن السلاح أيضا.
بمجرد أن تطأ قدمك الجزيرة الخضراء، تدرك لما تتصدر قائمة القرى الأكثر تصديرا للهجرة غير الشرعية، فترى الفقر متجسدا في البيوت الطينية الواهنة، والفتيات الصغيرات اللاتي وقفن على حافة "الترعة" يغسلن من مياهها الأوعية والملابس.
المرض والتهريب
الخدمات التعليمية والصحية تكاد تكون شبه منعدمة بالقرية التي يعاني معظم سكانها من فيروس "C"، التهاب الكبد الوبائي، جراء المياه الملوثة المختلطة بمياه الصرف ، التي يروون بها ظمأهم ويطهون بها طعامهم .
جولة بشوارع القرية، أكدت صحة بعض مما حدثنا به سائق التوك توك، ففيها يكثُر سماسرة الهجرة غير الشرعية، وإليها دخلت كمية كبيرة من السلاح بواسطة المهربين، ولكن الكثير من أهلها يتبرءون من فعل هؤلاء "الآثمون"، ويرون أنفسهم ضحايا لساحل بلدهم المفتوح دون رقابة.
حين يخيم الليل يتم إطفاء أنوار القرية بشكل متعمد ، فيعلم أهلها أن هناك مركب خرقت حدود المياه الإقليمية لمصر متجهة إلى إيطاليا، فها هي الإشارة تلوح لهم بالانطلاق بلا خوف من ضربها بالرصاص أو القبض على ركابها وإحباط محاولتهم للهجرة غير الشرعية.
تلك هي الرواية السائدة بين قاطني الجزيرة، التي كان لها النصيب الأكبر من ضحايا غرق مركب رشيد، أواخر سبتمبر الماضي، إذ ودعت نحو 17 قتيلا من أطفالها، ونجا أكثر من 28 آخرين معظمهم على استعداد لخوض التجربة ثانية متى سنحت لهم الفرصة .
كناريا: لو بطلنا هجرة نموت
بعد 7 ساعات عوم، حتى كادت تعجز عضلاته عن مقاومة الأمواج فيهوى غريقا، أنقذته إحدى مراكب الصيد، لم يكن "سعيد كمال كناريا" يهاب الموت الذي كان يعلم حتما أنه ملاقيه، بل يجزم أنه سيخوض التجربة ثانية، فأيما اختار البقاء في قريته أو عبور البحر عليه مصارعة الموت .
"هنقعد في البلد نعملو ايه.. أنا رايح جاي على القهوة مش لاقي شغل.. يكون أحسن لو غرقنا كده كده هنموتو من الجوع"، سيل من الكلمات أطلقها "كناريا" بوجه واجم وعفوية تليق بسنوات عمره الـ 17.
ينتظر "كناريا" فرصة أخرى للهجرة إلى إيطاليا، بعد فشل تجربته الأولى بغرق المركب في بحر رشيد، كان مقدرا ثمنها بـ 18 ألف جنيه، "الهجرة هنا مفيش أسهل منها، ولوالشغل ده بطل هنموت من الجوع"، مؤكدا أنه يوميا تخرج مركب أو اثنين خاصة في فصل الصيف.
ناجي من الغرق: خفر السواحل هربتنا
"مبقاش في شباب في البلد كلهم في أوروبا وعايشين أحلى عيشة وبنوا بيوت نضيفة..لا تقولي مصر ولا مش مصر"، جملة واصل بها "كناريا" حديثه المتمرد ليس فقط على حال قريته بل على مصريته كذلك .
وبلهجة غاضبة مليئة بالتحدي قال كناريا :"والله خفر السواحل هما اللي نزلونا المركب ووقفوا يحمونا، حوالي 8 أفراد، متفقين مع السمسار ياخدوا 500 جنيه على كل نفر في المركب".
كريم: الموت أهون من الفقر
" كريم عبد الفتاح مصطفى"، رغم سنوات عمره التي لم تتجاوز الـ 15 عاما، إلا أنه قرر الهجرة دون إخبار أبويه، غير مباليا بالمخاطر التي تنتظره في عرض البحر أو حتى إذا وصل إيطاليا، فقط يعلم أنه لا يمكنه العيش هنا وعليه الرحيل .
بين جدران بُنيت بالطوب الأحمر بدون سقف، خاوية على عروشها ليس فيها ماء ولا كهرباء، مجرد" حصيرة" هي فراش سكانها، عليها يبيتون ليلتهم ويقضون نهارهم، وسادتهم من قصاقيص، بجوارها "سبت غسيل"، يضعون فيه ملابسهم عوضا عن الدولاب، و"بوتاجاز" قديم متهالك بعين واحدة، يسكن "كريم" ناقما على عيشته.
جاء "كريم" من الخارج بعدما استدعاه أبويه ليقص علينا رحلته التي انتهت قبل أن تبدأ بغرق المركب في بحر رشيد وكيف نجا من الموت، يمشي في مهل على استحياء كأن شيء ما أثقل خطواته، ألقى بنظره إلى الأرض وأشاح بوجهه وتمتم بصوت منخفض "انت شايفة العيشة أهو".
فجأة ألقى بالميكرفون بعيدا عنه، اختنق صوته ببكاء يحبسه في صدره، أخذته العزة فأبى ألا يستطرد في الحديث، حاول الأب تهدأته مبررا فعلته "هو مكسوف من شكل البيت، احنا حتى معندناش دورة مياه بنروح عند الجيران، ولولا جمعية الاورمان بنت الحيطان دي كنا نمنا في الشارع".
اعتدل من جلسته هدأ قليلا، واصل "كريم" الحديث وعيناه تخترقان الأرض في شرود "لقيت مركب بيحمل عيال فركبت، أنا عومت 8 ساعات وشوفت الموت ياما، لكن هناك هبقى في عيشة حلوة ومدارس نضيفة وهشتغل، هقعد هنا اعمل ايه.. لو أهلي وافقوا همشي تاني".
اغتر "كريم" بالصور التي يراها على "الفيسبوك" لأصحابه الذين نجحوا في الهجرة إلى إيطاليا، ملابس باهظة الثمن وأماكن جميلة تظهر في خلفية الصورة، فراح إلى السمسار الذي سفر أحد أصدقائه، آملا أن يجد هناك مغانم كثيرة.
يقاطع الأب الحديث "ابني عنده طموح، بس مفيش مشي تاني، أنا بعد ما شوفت الجثث خلاص مش عاوز حاجة من الدنيا غير عيالي".
جنة إيطاليا
"سماسرة الهجرة غير الشرعية" ما أكثرهم في الجزيرة، ينتشرون على مقاهيها يستقطبون الأطفال العابرون أمامهم على الجسر، يغرونهم بحكايات عن نعيم إيطاليا يصورنها كأنها جنة الله على الأرض، فيها كل ما تشتهي أنفسهم من ملبس ومأكل وشراب ومنازل وأموال كثيرة ورعاية صحية وتعليمية.
تلك المغريات قادت "هلال" ذو الـ17 عام إلى الموت، فقبل عام من اتخاذه قرار الرحيل بدى عليه التمرد على عيشته، بات دائم الحديث عن رغبته في الهجرة، ولاسثنائه عن تفكيره في الهجرة اشترى له والده "توك توك" بالتقسيط، ليعمل عليه بعد يومه الدراسي، حسبما يروي "شاكر" زوج اخته.
بعد صعود "هلال" للمركب، جاء السمسار "أ.م.ع" إلى والده يخبره برحيل ابنه ويطالبه بسداد 20 ألف جنيه إذا وصل إيطاليا و3 آلاف جنيه إذا فشلت الرحلة نظير الطعام والشراب، فرد أخاه بأنهم يرفضون هجرته وطالبه بإعادته، إلا أنه في ذلك الوقت كان يصارع الموت في بحر رشيد .
"يمشي" كلمة متداولة على لسان أهل القرية يتحدثون بها عن الهجرة، وكأن إيطاليا في الشارع المجاور، فقط تتطلب الهجرة إليها ما بين 17 ألف إلى 20 ألف جنيه، يسددها الأهالي بعد وصول أبنائهم، ولكن بحسب شاكر، بإمكان أي طفل ركوب المركب مجانا، فقط لأنه من أهل الجزيرة.
انفتاح السواحل
"عندي استعداد احمل مركب واطلع بها دلوقتي" يقولها شاكر بيقين، ليؤكد أن السواحل مفتوحة دون رقابة، فمنذ ثورة 25 يناير ولم تعد الحراسة على السواحل كما كانت في عهد مبارك، ومن ثم انتشرت عمليات التهريب سواء الهجرة أو السلاح والمخدرات، بحد قوله.
احتد صوت شاكر وعلت نبراته بعدما أخذه الحديث عن حال القرية "احنا في بلد ميتة، الحكومة بدور على حقها بس، انت يامصر بتحلبي فينا وبس، بينهبونا عافية، والله ما شوفنا في مصر غير النهب".
شقيقة هلال، بدت أكثر غضبا من زوجها شاكر قائلة:" العيال دي مطلعتش تهريب إلا بإذن خفر السواحل، والحكومة عارفة كل السماسرة هنا وسيباهم، مش كانت مصر أولى بشبابها هما أبنائها ولا أبناءإيطاليا، مصر أم الدنيا مبتقش أم، العيال مش لاقية حاجة تبني عليها مستقبلها، هو التوك توك هيبني مستقبل عيل؟".
هكذا يكون الحال بالجزيرة، ينقسم عمل أهلها بين الصيد و"التكاتك"، بخلاف ذلك يتراصون على المقاهي المنتشرة بطول القرية، الأطفال والشباب في انتظار دورهم في مراكب الهجرة يعدهم ويُمنيهم السماسرة، والشيوخ ينتظرون الفرج في مواسم البلح .
اقتحم الحديث أحد الأهالي ليقسم يمينا أنه متى استطاع جمع 40 ألف جنيه ليهاجر هو وزوجته وطفليه، كان يعلق الأمل على العمل في مشروع المزارع السمكية التي بدأت فيه الحكومة على أرض الجزيرة، ولكنهم أتوا بعمال من الصعيد.
على الجسر كان يجلس رجلا ثلاثيني، ما أن سألناه عن حال القرية انطلق بسيل من الشكوى "احنا مش عايشين، الأكل والشرب من مية الترعة علشان المية بتيجي ساعتين وتقطع، ومفيش كهرباء ولا مستشفيات، ومفيش حد بيشتغل حتى المشاريع اللي بتتعمل الغرب بيشتغلو فيها، احنا أصلا مش تبع الدولة دي".
"إسلام"، الشاب العشريني، كم يتمنى الهروب من البلد، ولكنه أصبح الوحيد الذي يعول أسرته بعد غرق أخيه وهجرة شقيقه الأخر إلى إيطاليا:"عاوز أهرب من الغلب اللي عايشين فيه، بشتغل يوم نقّاش وعشرة لأ، وعايش في أوضة أنا ومراتي وابني وأمي".
السماسرة من تحت الصفر للملايين
نحّى "إسلام" حديثه عن معاناته جانبا، لينتقل إلى كيفية الهروب من القرية، بدأها بالقفزة التي تحولت في حياة السماسرة هنا جراء تجارتهم الرابحة، فأحدهم كان "تحت الصفر"، بحسب تعبيره، والآن سار مليونيرا انتقل من غرفة بدائية إلى فيلا .
يستطرد إسلام :"اللي موت الأرواح دي كلها، ملوحا إلى ضحايا مركب رشيد، مكنش في جيبه 100 جنيه دلوقتي معاه 3 مليون"، وذلك عن طريق المقاولة على عدد من الأفراد يغريهم بالسفر مقابل مبالغ تتراوح بين 17 إلى 35 ألف جنيه، تختلف بحسب المحافظة التي ينتمي لها المهاجر، وتزيد على غير المصريين.
بعد الاتفاق مع السمسار، يتصل بهم لاحقا ليخبرهم بالتوجه إلى مزرعة دواجن مهجورة على الطريق الزراعي يتم "تخزينهم" لأيام لحين يأتي كل مندوب بما لديه من مهاجرين لنقلهم إلى الميناء، ثم ترحيلهم في قوارب صيد بمجموعات صغيرة وصولا إلى المركب التي ستنطلق بهم إلى إيطاليا، تتمركز عند حدود المياه الإقليمية لمصر المراقبة بالرادار، بحسب إسلام.
الهجرة حلم كل طفل
"أم فرحة" استوقتنا في الطريق لتحملنا رسالة تبعث بها للحكومة "حرام العيل يتربى بالذل والإهانة حتى لبسه بنجيبه شكك ويموت في البحر، عاوزين نلحقوا الباقي من أطفالنا، كلهم عاوزين يمشوا"، ليرد عدد من أطفال القرية الملتفين حولها بصوت واحد دون اتفاق مسبق " آه عاوزين نمشي".