قشىة الغريق
تحقيق| "وادي" وأسرته .. للهجرة غير الشرعية وجوه أخرى أشد قسوة
كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، الهدوء يسكن مياه البحر المتوسط، الرياح مستقرة تماما وكأنها تعطي إشارة الانطلاق إلى الشاطيء الآخر، تسلل الجميع واحدا تلو الآخر عبر زوارق صغيرة إلى القارب الأكبر الذي ينتظرهم عند حدود المياه الإقليمية لمصر، كل اتخذ موضعه في خوف من الغرق وأملا في الوصول.
المركب الغارقة
بعد 6 أيام من انطلاق الرحلة من ساحل إدكو بالإسكندرية وعلى بعد 75 ميلا من جزيرة كريت اليونانية، تعطلت المركب وهاجت الأمواج فجأة لتنذر بغرق من عليها، ومع تمايل القارب يمينا ويسارا ماتت إحدى النساء بالسكتة القلبية من هول المشهد، لتخلف ورائها طفلين مفقودين، وصغرى ذات 7 سنوات انتشلتها فرق الإنقاذ إلى إيطاليا.
أطفال "وادي"
هجرة للعلاج
تلك السيدة اصطحبها زوجها "أحمد وادي" بأولادهم الثلاثة في هجرة غير شرعية، بعدما يأس من علاج طفليهما التوأم هنا في مصر، ففر إلى البحر ليحمله إلى اليونان ومنها يخوض مسارات أخرى نحو ألمانيا، بعدما عجز عن توفير 150 ألف جنيها للحصول على تأشيرة دخولهم، مقابل 50 ألف جنيه فقط عن الأسرة بأكملها بواسطة التهريب.
غرق المركب
فقدان طفلين
يوم الجمعة 3 يونيو الماضي أعلنت السلطات اليونانية غرق قارب طوله 25 مترا على متنه 700 شخص، كان من بينهم أسرة "وادي"، لينجو هو و340 أخرين وتتوفى زوجته ضمن 100 قتيل، ويفقد طفليه "محمد" ذا الـ 7 سنوات و"هيام" ذات الـ 4 سنوات، كبقية من كان على متن المركب لم يُعثر عليهم حتى الآن سواء أحياء أو أموات .
"محمد ورحمة"
في إحدى الصحف اليونانية رأى "وادي" صورة أرسلها له أحد أصدقائه المهاجرين، هي لطفل يبدو من ظهره، ولكنه يجزم أنه ابنه، يرتدى نفس الملابس وذات الهيئة، مدون على هذه الصورة التي تحتوي أشخاص آخرون، أن هؤلاء ناجون من المركب الغارقة يوم 3 يونيو وأنهم محتجزين لدى السلطات اليونانية.
صورة لناجون من المركب الغارقة
تجاهل المسؤلون
روى "وادي" لنا من مقر احتجازه بإيطاليا عبر "اسكايب"، أنه هرع إلى وزارة الخارجية بعدما فرغ من دفن زوجته بقريتهم "أبو شلبي" بمركز فاقوس بمحافظة الشرقية، يلوذ بها للبحث عن طفليه المفقودين واستعادة الثالثة التي حملتها سفن الإنقاذ إلى إيطاليا، غير أنه عاد مخيب الآمال حين أجابه المسؤولين هناك :"دلوقتي جاي تقولي بنتي..زي ما ودتها روح هاتها".
أحمد وادي متحدثا لـ "مصرا لعربية "من مقر الاحتجاز بإيطاليا
"لماذا اصطحبت زوجتك وأطفالك في مثل هذه المغامرة رغم خطورتها؟"، أول سؤال يواجهه "وادي" في كل مرة يشرع فيها في سرد رواية ما حدث معه، وهو ما يجعله يشتاط غضبا إذا ما تكرر السؤال على مسامعه، ليجيب في حدة "أنا لفيت مصر كلها ملقتش علاج لعيالي..والدكتارة قالولي هيعيشيوا طول عمرهم بتنفس صناعي..هيموتوا في البحر طب ما هما مش عايشين..بس لو كنا وصلنا ألمانيا هيعيشوا ".
أكثر من عملية للحمية الأنف خضع لها التوأمين "محمد ورحمة"، بعد تأخر حالتهما وتعرضهم مرات عديدة لضيق تنفس حاد حتى ظنا الأبوين أنه لا مفر من موتهما، وبعد رحلة طويلة من التنقل بين الأطباء، حذره أحدهم من تعرض الطفلين للغبار وإلا يذهب أثر العملية هباءا، ونصحه بالسفر إلى ألمانيا باعتبارها متطورة في مثل هذه العمليات حتى يشفيا تماما .
ولما يأس "وادي" من طرق أبواب وزارة الخارجية، عاد ثانية إلى نفس "السمسار" الذي هربه سابقا، يطالبه برحلة أخرى ليلتقي بابنته المتواجدة بإحدى دور الرعاية في جزيرة صقلية، ولكن هذه المرة ستكون مجانيا عوضا عما فقده من زوجة وطفلين .
وبخلاف المرة الأولى..الأمواج شديدة تشبه العاصفة، تهبط بالمركب أسفل المياه تارة، وتعلو بها تارة أخرى، ولكن من انتابه الخوف والفزع ويريد العودة يكون مصيره الهلاك، فبمجرد أن تطأ قدم المهاجر المركب ليس أمامه سوى مصارعة الموت إما مع الأمواج أو المهربين الحاملين للسلاح يهددون كل من يفكر في العودة بالقتل، بحسب "وادي".
عملية إنقاذ ضحايا المركب
7 أيام استغرقتها الرحلة الثانية لـ "وادي"، لم يحمل فيها أي متاع سوى أوراق هويته، و10 زجاجات مياه تكون له طوق نجاة إذا غرقت المركب مثلما أنقذته زجاجة فارغة "عام" عليها في المرة الأولى، متحملا رغما عنه سوء المعاملة من طاقم المركب له ولجميع من على متنها، أملا في الوصول إلى ابنته.
"رحمة" في دار رعاية بإيطاليا
6سبتمر الماضي، التقى "وادي" أخيرا بابنته رحمة، ليراها في ثياب جميلة ودار نظيفة وبصحة جيدة، علم بعدها أنهم أجروا لها العملية هناك، وبمجرد وصوله إيطاليا أخبرهم بتفاصيل قصته فمنحوه إقامة لمدة عامين، مع بقائه قيد الاحتجاز لحين توفير سكن ملائم يجمعه بابنته، عاقدا العزم بألا يعود لمصر إلا بعد العثور عن طفليه المفقودين.
وادي مع ابنته في دار رعاية بإيطاليا
جنة الاحتجاز
"هنا جنة " هكذا وصف وادي مقر احتجازه بإيطاليا، ممتنا لله على الحياة التي يعشها الآن هناك هو وابنته، رغم أنه لم يكن فقيرا أو يعاني كثيرا هنا في مصر، فهو يملك شقة ومحل قطع غيار سيارات، ولكن تلك الأموال لم تكن لتغنيه لشفاء أولاده هنا حتى يضطر للهجرة التي أودت باثنين منهم إلى المجهول.
مقر الاحتجاز في إيطاليا
وبينما يتحدث إلينا مرتديا "ترينج" يبدو باهظ الثمن، جال بهاتفه المحمول مقر الاحتجاز ليطلعنا على ما وصفه بروعة المكان، من يريد اللعب والمرح فهناك صالة بلياردو وحديقة واسعة، ومن يريد تسلية وقته يجد التلفاز يشغل كل ركن من أركانه، أما إذا اشتهت نفسه شرابا أو طعاما فعليه بالديب فريزر المليء بما لذ وطاب، ليستلقي إلى السرير في غرف النوم المخصصة وقتما يشاء.
مقر الاحتجاز في إيطاليا
مقر الاحتجاز في إيطاليا
وأثناء ذلك مر صدفة طبيب يتبع منظمة "EMERGENC" يأتي إليهم مرتين أو أكثر في الأسبوع للاطمئنان على صحتهم، وبضحكات ساخرة قارن "وادي" بين أماكن الاحتجاز هناك ومصر "هنا غير طرة وأبو زعبل خالص..هنا بيدونا 2 يورو ونصف يوميا، وبناكل وبنشرب وعايشين وبنلبس ونتعالج ببلاش، الدكتور هو اللي جاي يسأل على المريض.. في مصر لو بنموت محدش هيسأل فينا " .
طبيب لعلاج المتحجزين بإيطاليا
"رحمة" بلا أهل
في حادثة غرق مركب رشيد نهاية سبتمبر الماضي، ألتفت الأنظار إلى وجود أسر بأكملها في هجرة غير شرعية، ما بدى أمرا غريبا من اصطحاب رجل لزوجته وأولاده في مغامرة انتهت بالموت، إلا أن "وادي" أكد في حديثه أن رحلته الأولى في شهر يونيو الماضي، كانت بها الكثير من الأسر خاصة من قريته "أبو شلبي" بالشرقية، ظنا منهم أنهم سيحصلون على حق اللجوء بالإدعاء أنهم أسر سورية.
ومن بين أسرة مكونة من 6 أفراد وصلت "جنة" ذات الثلاث سنوات إلى إيطاليا، بعد غرق المركب في 3 يونيو، بينما أعادت سفن الإنقاذ أبويها وشقيقيها إلى مصر، ويظل الثالث مفقودا إلى الآن.
ويوما بعد يوم يقطع الأبوين مسافة من قرية "أبوشلبي" إلى مكتب تصديقات وزارة الخارجية بميدان لاظوغلي بوسط القاهرة، لاستعادة ابنتهما دون مجيب، ولم يعدا يطمئنا على حال ابنتهم سوى من "وادي" حيث توجد برفقة ابنته "رحمة" في إحدى دور الرعاية في جزيرة صقلية .