قشة الغريق (7-10)
تحقيق|"الرومانسي"..طالب إعدادي بدرجة مندوب هجرة غير شرعية
"محمود الرومانسي" كما يطلق على نفسه هو تلميذ بالمرحلة الإعدادية ولكنه بدرج مندوب هجرة غير شرعية ،رغم سنوات عمره التي لم تتجاوز الـ 17عاما، إلا أنه اتجه للعمل في "السمسرة" ليسلك طريقا يعلم يقينا أنه يكتب فيه شهادة وفاته بنفسه.
في قرية تطون بمركز إطسا بمحافظة الفيوم، التقينا بـ "الرومانسي"، جسده النحيف ورأسه المطأطأة وعيناه الذابلتان وكلماته غير المرتبة توحي لك وكأنه شخص آخر غير الذي يحدثنا عن مغامراته في سبيل الهجرة غير الشرعية حتى بات واحدا من سماسرتها.
"محمود" مندوب هجرة غير شرعية بقرية تطون
بدأ مشوار الرومانسي في العمل كـ "مندوب" لسمسار هجرة غير شرعية، بعد فشله هو في الهروب إلى إيطاليا، منذ 3 أشهر بعد غرق المركب التي كان يستقلها قبل الخروج من المياه الإقليمية لمصر، فعادوا ثانية إلى الشاطيء وألقت الشرطة القبض عليهم.
قبل الوصول إلى المركب، مر "الرومانسي" بمعاناة زادت من غضبه من بلاده، ففي فترة تخزين المهاجرين في مزرعة دواجن على طريق إسكندرية الصحراوي، سلبهم المهربون من كل متعلقاتهم الشخصية وقاموا بتغمية أعينهم بشارات سوداء يزيحونها عنهم عند إحضار الطعام.
بضحكات ساخرة يستطرد الرومانسي ما حدث معه أيام التخزين "مكنش فيه غير عيش معفن لو اتحط للطير تقرف منه"، أحدهم تمرد على الوضع فأمسك بأنبوبة بوتجاز فارغة وهدد بإشعال النيران في نفسه والمزرعة بمن فيها إذا لم يحضروا طعام جيد .
تتعال ضحكات الرومانسي ويستكمل حديثه "راحوا جابو علبة تونة واحدة حطوها قدام 30 نفر، تخيلي بقى علبة تونة جاية جديد عملنا عليها إيه، وكمان كنا بنعمل حمام في المكان اللي احنا قاعدين فيه ".
لم تتوقف معاناة "الرومانسي"عند هذا الحد، فبعد أسبوع من التخزين، نقلهم المهربون عبر سيارات نصف نقل إلى رشيد، وهناك أنزلوهم في عوامة وسط البحر، قضوا بها أسبوع آخر بلا طعام أو شراب، وإنما كانت تتغذى أجسادهم على ما تلقاه من ضرب من المهربين .
"بنمشي علشان مش لاقيين حاجة هنا، عاوزين نبني مستقبلنا ونجوز اخواتنا"، لهذا كان يريد الرومانسي الهجرة إلى إيطاليا، خاصة أن كل أصحابه من القرية سبقوه إليها .
ويضيف "اللي بيروح هناك بيشتغل واحنا ولا عندنا أرض ولا غيط ولا أي حاجة".
في السادسة من صباح كل يوم يخرج الرومانسي من منزله لا للذهاب إلى مدرسته، ولكن ليعمل حدادا ويعود في الثامنة مساء بـ 50 جنيها يتقاضاها نظير عمله، ولأنها لا تكفي الإنفاق على نفسه وأسرته، قرر العمل "مندوبا" للمهربين إلى جوار مهنته .
طبيعة عمل "المندوب" تتمثل في استقطاب عدد معين من الأطفال بالقرية وإغرائهم بجنة إيطاليا مقابل دفع 20 ألف جنيه بعد وصولهم إلى أرضها، ثم يتفق مع السمسار الذي يعمل تحت يديه ليحدد موعد الانطلاق.
وبعد انطلاق المركب إلى إيطاليا يتحفظ المهرب على المندوب كالرهينة حتى تصل المركب ويسدد ذوي المهاجرين المبلغ المتفق عليه لتحريره، حسبما يروي الرومانسي .
إذا تأخر البعض في سداد المبلغ يتعرض المندوب للضرب والسباب، أما إذا رفض أهل المهاجرين دفع الفلوس يكون مصيره في هذه الحالة القتل.
مقابل هذه المغامرة يتقاضى "الرومانسي"، 200 جنيه عن كل يوم منذ انطلاق المركب حتى تسديد المهاجر للمبلغ المتفق عليه، أو ألف جنيه عن كل "راس"، حسب وصفه، وهو كل فرد توسط له في الهجرة غير الشرعية .
مرة ثانية حاول "الرومانسي" الهجرة غير الشرعية ولكنها فشلت أيضا، أطلق خفر السواحل النار على القارب الصغير الذي كان مقرر له الالتحاق بمركب رشيد، التي غرقت أواخر سبتمبر الماضي وراح ضحيتها ما يزيد عن 200 قتيل.
غرق مركب رشيد
ألقت الشرطة القبض على "الرومانسي" ومن معه، فنجوا من الغرق، إلا أن حلم الهجرة إلى إيطاليا لايزال يراوده لتتبناه سيدة هناك يتواصل معها عبر الفيسبوك.
هي سيدة في إيطاليا تتبنى الأطفال وتطعمهم وتنفق عليهم، وتبنت صديق له كان في الملجأ، ويقيم معها حاليا في منزلها ومنحته الإقامة ليرثها بعد موتها، وحين رأت صورة "الرومانسي" على الفيسبوك أرادت أن تحدثه.
ويواصل الرومانسي حديثه "صاحبي قالي شافت صورتك على الفيس، وعاوزة تشوفك وتكلمك..وكلمتني عربي مكسر قالتلي اركب وتعالى وهتبناك ..وصاحبي بيقولي الدنيا هناك حلوة".
لم يبال الرومانسي بمخاطر الانجراف وراء الهجرة أو السماسرة، فكلاهما بذات الخطورة سواء أن يلقي بنفسه في البحر ليصل إلى إيطاليا أو أن يلقي بنفسه بين السماسرة، النهاية يعلمها واحدة وهي "الموت.
وفي ظل تصديق الرئيس عبد الفتاح السيسي، على قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية، الذي أقره البرلمان في أكتوبر الماضي، هل يتعرض "الرومانسي" للعقوبات المنصوص عليها في القانون؟.
المستشار محمد ابراهيم، المحام العام الأول بمكتب النائب العام، وممثل النيابة العامة في اللجنة التنسيقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، قال إن القانون نص على أنه في حالة استخدام طفل في مسألة التهريب ليشاركها هذه الجريمة يعتبر ظرف مشدد يجعل عقوبة المهرب تصل إلى المؤبد.
وأضاف المحام العام، أن الطفل المشترك في الجريمة إذا أبلغ عن بقية العناصر يُعفى من العقوبة، وإذا لم يُبلغ يُعامل بمقتضى قانون الطفل رقم 96 بتعديلاته ويخضع لعقوبة مخففة أو يتم وضعه في إحدى المؤسسات لإصلاحة وتسليمه لولي أمره .
فيما ينص قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية، على عقوبة السجن وغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد عن 200 ألف جنيه، لكل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين أو الشروع فيها أو توسط في ذلك.
كما يعاقب القانون بالسجن كل من جهز أو أدار مكانا لإيواء المهاجرين المهربين أو جمعهم أو نقلهم أو سهل أو قدم لهم أي خدمات مع ثبوت علمه بذلك، وأعفى القانون المهاجر المُهرب من "أي مسؤولية جناية أو مدنية".