تحقيق |قشة الغريق..الاختيار بين "موتين "
أخيرا نجح في الوصول إلى بريطانيا، بعد طريق طويل محفوف بالمخاطر وسط غابات وتضاريس جبلية، تنقل فيها بين 5 بلدان سيرا على الأقدام، رحلة هروب شاقة خاضها "ناجي محمد"- اسم مستعار- ، فرارا من مصير كان ينتظره في مصر.
قبل ما يزيد عن عام ونصف لم يجد "ناجي" مفرا من عبور البحر إلى الشاطيء الآخر في قوارب متهالكة يعلم يقينا أنها ستودي بحياته، كمصير كثير ممن يلوذون بالهجرة غير الشرعية، إلا أنه تساوى لديه الموت والحياة هنا في بلاده، فقط يعانق بصيص من الأمل في الحياة يراه معلقا على ساحل إيطاليا.
"ناجي"..أحد المهاجرين
"ناجي" رحلة هروب من مصر إلى بريطانيا فرارا من الأمن
"محدش عاوز يهاجر ويسيب بلده..لكن اللي بيحصل غصب عننا..اللي يجيي يعيش يوم واحد هنا مستحيل يفكر يرجع بلده"، قالها "ناجي" وهو يقص علينا من بريطانيا عبر "اسكايب"، مرارة ما ذاقه أثناء رحلته من ذل ومهانة ومخاطر تجاوزت سنوات عمره الـ 20، رافضا ذكر اسمه الحقيقي خوفا على أهله في مصر.
عانى "ناجي" كثيرا في قريته "الجزيرةالخضراء" بمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، بعدما أجبره الفقر على العمل منذ طفولته التي لم يأخذ نصيبه منها ، ولمّا سار شابا بلغ الـ 17 من عمره، ألقت الشرطة القبض عليه في تظاهرة نظمتها جماعة الإخوان المسلمين لم يكن مشاركا بها وأصبح مطاردا من الأمن.. المزيد
تلك واحدة من بين آلاف القصص لشباب وأطفال سلكوا طريق الهجرة غير الشرعية، منهم من يعود في توابيت ومنهم من تصبح أجسادهم وجبات طازجة تتغذى عليها الأسماك، ومن ينجح في الوصول إما يُرحل لبلاده خائبا، أو يظفر بالإقامة ليواجه مصير آخر.
صورة أرشيفية..غرق مركب غير شرعية
"لماذا يهجر هؤلاء وطنهم ويلقون بأنفسهم في البحر وهم يدركون جيدا أهواله ومخاطره؟"، ربما يطرأ هذا التساؤل على ذهن كثير عند تداول أخبار عن غرق مركب هجرة غير شرعية يروح ضحيتها عشرات الأطفال والشباب، ذلك العرض المستمر الذي يتكرر مرات عديدة في العام الواحد، وتزايد بكثرة في الفترة الأخيرة وفقا لإحصائيات دولية.
وأول أمس الخميس الموافق 22 ديسمبر الجاري، غرق قارب على متنه نحو 100 شخص بين إيطاليا وليبيا، ليرتفع عدد الضحايا الذين ابتلعهم البحر المتوسط هذا العام إلى أكثر من 5 آلاف غريق، مقابل 3771 في 2015، وفقا لاحصائيات الأمم المتحدة، التي أكدت أن 2016 أكثر الأعوام فتكا بالمهاجرين الذين يحاولون عبور المتوسط إلى أوروبا.
تزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين
رئيس دائرة الاستخبارات والأمن الداخلي الإيطالي ماريو بارينتي، قال أمام اللجنة البرلمانية لأمن إيطاليا في شهر يوليو الماضي، إن أعداد المهاجرين غير الشرعيين الوافدين من مصر تضاعفت بنسبة 104%، وفقا لما نقلته وكالة أنباء آكي الإيطالية وقتها .
وبحسب إحصائية صادرة عن وزارة الداخلية الإيطالية، وصل عدد المهاجرين عن طريق البحر من يناير حتى يوليو 2013 إلى 1324 مهاجر منهم 208 من النساء و352 من الأطفال، لترتفع النسبة في شهر أغسطس من العام نفسه حيث وصل عدد الوافدين إلى 2142 من بينهم 709 طفل.
التزايد في أعداد المهاجرين غير الشرعيين، أوضحه تقرير للمنظمة الدولية للهجرة، ففي عام 2011 وصل إلى إيطاليا 2189 مهاجراً ووصل إلى اليونان 995، وفى عام 2012 وصل إلى إيطاليا 1500 مهاجر، وفى عام 2013 زادت الأعداد مجدداً ووصل 3 آلاف مهاجر إلى إيطاليا، وفى عام 2014 وصل 4500 مهاجر إلى إيطاليا و619 إلى اليونان ثم انخفضت فى عام 2015 ووصل إلى إيطاليا 2700 مهاجر وفى يونيو 2016 وصل 2859 مهاجراً.
الجزيرة الخضراء: "لو بطلنا نهاجر نموت"
في قرية الجزيرة الخضراء بمركز مطوبس في محافظة كفر الشيخ ، لا يخلو منزل من شباب وأطفال مهاجرين، تبدأ رحلتهم من ساحل كفر الشيخ إلى إيطاليا، وإذا ضلت المركب طريقها في البحر تتجه إلى اليونان ليسلم المهاجرون أنفسهم إلى شبكات التهريب عابرة الحدود لتمكنهم من دخول أية بلدة أوروبية يشاءون الانتقال إليها .
جانب من الحياة في قرية الجزيرة الخضراء
المحافظات الأكثر تصديرا للهجرة
ليست محافظة كفر الشيخ، وحدها من تصدر المهاجرين، فهناك 9 محافظات أخرى يُصدورن، هم:"الشرقية، الدقهلية، الغربية، القليوبية، المنوفية، البحيرة، الفيوم، أسيوط، الأقصر"، بحسب دراسة أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.
هذه القرى أيضا تصدرت ورقة بحثية عن المحافظات الأكثر فقرا، أعدها المركز القومي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في سبتمبر 2016، جاء فيها أن عدد الفقراء في أسيوط بلغ 58.1% من عدد السكان منهم 24.8% لا يجدون قوت يومهم، واحتلت الفيوم المركز الرابع بعد بني سويف وسوهاج، بنسبة 35.4% بينهم 10.9% لا يجدون قوت يومهم.
وفي محافظات وجه بحري ذكرت "الورقة البحثية" أن 13.1% من سكانها يعانون الفقر، في صدارتها محافظة المنوفية بنسبة 21.7% بينهم 3.7% لا يجدون قوت يومهم تليها محافظة الدقهلية بنسبة تصل إلى 17.7% ثم الشرقية بنسبة 16.1% والقليوبية 12.1% والإسكندرية 11.3% والبحيرة بنسبة 10.4% والغربية 10.1% .
إحدى الأبراج السكانية بقرية تطون
في قرية "تطون".. عندما تحمد الله على نعمة إيطاليا
بعد طريق طويل متعرج كثير المطبات، تعانقه روائح الأتربة التي تزكم الأنوف وتغطي ملامح الوجه، تصل إلى قرية "تطون"، بمركز إطسا بمحافظة الفيوم، لتعلم من أهلها أن الفقر وحده ليس من يدفع البعض لشق طريقا في البحر إلى إيطاليا، ولكنها "الغيرة" والرغبة في اغتنام النعيم الذي حصده المهاجرون من قبل ...المزيد
"الرومانسي"..طالب بدرجة مندوب لسماسرة الموت
محمود الرومانسي ..مندوب هجرة غير شرعية
رغم أن "محمود الرومانسي"، لم يتجاوز الـ 17 من عمره إلا أنه اتجه لمهنة "السمسرة" بعد فشله في الهجرة غير الشرعية، ليغامر في طريق يعلم يقينا أن نهايته الموت ..المزيد
"كلا الباب"..قرية "لعب الزهر مع أهلها " بعد الهجرة
"كفر كلا الباب" بمحافظة الغربية، كانت المحطة الثالثة التي اتجهنا إليها بعد كفر الشيخ والفيوم، باعتبارهما الأكثر تصديرا للهجرة، وبينما كانت "الجزيرة الخضراء" ينضح الفقر من كافة أركانها وأُناسها، اختلف الأمر تماما في المحافظيتن الأُخرتين، التي تركت هجرة أبنائها آثارها على بنايات قريتهم وشوارعها وثقافة أهلها.
داخل القرية، أخبرنا الأهالي باختفاء مهاجرين من أبنائها وأخرين من قرى مجاورة، منهم ما يزيد عن 6 أسر كاملة من قرية "أبو شلبي" بالشرقية، كانوا على متن مركب غرقت قبل جزيرة كريت اليونانية، نجا 300 شخص ومات 100 آخرين، وظل بقية الـ 700 مهاجر في تعداد المفقودين منذ 3 يونيو الماضي .. المزيد
"محمد"..طفولةابتلعها البحر
توسلت إليه والدته "بلاش يامحمد..ربيتك وكبرتك وفي الأخر اوديك للسمك ياكلك"، إلا أن محاولاتها لم تفلح في إقناعه بالعدول عن الهجرة، ليعود إليها بعد يومين داخل "كيس أسود" جثة هامدة وقد تغيرت ملامحه، ولم يستدل عليه والده إلا من ملابسه الداخلية بعدما نفخت مياه البحر جسده النحيل وترك السمك آثاره على وجهه ...المزيد
"زيزو" بعد 4 سنوات هجرة "بريطانيا ليست جنة"
عام ونصف لم يرسل فيهم "زيزو" أي نقود لأهله كما وعدهم، أو كما كان يظن أنه سيتغدق عليهم بأموال طائلة بمجرد وصوله إيطاليا، فطبقا للقوانين هناك لا يسمح لطفل في مثل عمره بالعمل، فاضطر للهرب منها إلى إنجلترا، متحملا قسوة رحلة الهروب أملا في أن يظفر نهاية المطاف بلجوء إنساني يمنحه الإقامة الدائمة هناك، أو يتنازل عن مصريته ...المزيد
وأشارت التجربة إلى شبكات التهريب عابرة الحدود، ومن بين أطرافها مصريين، وهو ما أكد عليه مصدر مسؤول بوزارة الخارجية، رفض ذكر اسمه، منوها إلى أن هذه الشبكة تضم مهربين من جنسيات مختلفة أبرزهم "إسرائيل، وإثيوبيا، وإريتريا، ومصر، وبلدان أخرى من دول إفريقيا".
مسارات التهريب من اليونان إلى أوروبا
هذه العصابات لا تتوقف مهمتها عند حد توصيل المهاجرين من بلدة إلى أخرى، ولكنها تستغل هؤلاء أحيانا في تجارة الأعضاء و إجبارهم على العمل في مهن غير مشروعة مثل تجارة السلاح والمخدرات، بحسب المصدر، مشيرا إلى أنه برغم خطورة هذه العصابات إلا أنه لا يوجد أي جهود دولية مشتركة للقضاء عليها ولا يمكن لمصر التحرك بمفردها لمواجهتها.
"جنة الاحتجاز بإيطاليا"..مصير "وادي" بعد نجاته وطفلته من الموت
وبينما كان الفقر الذي يندرج تحت خطه 26.3% من سكان مصر، بحسب تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء منتصف العام الجاري، وكذلك البطالة والسعي وراء تحسين المعيشة أو "الغيرة" من الآخرين أو لأسباب سياسية، الدافع لدى البعض للهجرة غير الشرعية، كان البحر السبيل الوحيد أمام "أحمد وادي" لعلاج نجليه التوأم ليبقيا على قيد الحياة.
"وادي" من داخل مقر الاحتجاز بإيطاليا
خرج "وادي" مصطحبا زوجته وأبناءه الثلاثة من قريتهم "أبو شلبي" بالشرقية، إلى الإسكندرية ليستقل مركب ينقله لليونان ومنها ينطلق إلى ألمانيا، غير أن القارب غرق قبيل جزيرة كريت وماتت زوجته وفقد طفلين لا يعلم أحياء هم أم أموات، بينما أنقذت السفن التجارية ابنته الثالثة "رحمة" وأرسلتها إلى إيطاليا .. المزيد
مسارات التهريب
وعلى اختلاف أسباب الهجرة والمهاجرين ومحافظاتهم التي توافدوا منها، بقيت هناك مسارات واحدة يخوضها الجميع، حتى يصلوا إلى نقطة تلاقي إما أن تكون في ميناء أبو قير بالإسكندرية أو برج مغيزل بكفر الشيخ، أو ساحل رشيد، تنطلق منها قوارب الصيد الصغيرة إلى المركب الكبرى المنتظرة عند حدود المياه الإقليمية لمصر.
قبل الوصول إلى الميناء، يمر المهاجرون بأماكن عدة عُرفت بـ "التخزين"، منها شقق سكنية بعمارات مطلة على البحر في شارع 45 بالإسكندرية ، وأخرى في مزرعة دواجن على طريق مصر الإسكندرية الصحراوي.
أماكن التخزين
تبدأ رحلة سير المهاجر من محافظته إلى موقف الإسكندرية الجديد، وهناك يوجهه "السمسار" عبر الهاتف إلى أماكن أخرى يتجمع فيها بقية المهاجرين، حتى إذا اكتمل العدد المطلوب للرحلة، تبدأ الخطوة التالية بترحيلهم في سيارات ميكروباص إلى مزرعة الدواجن التي توجد على بعد 300 متر على يمين أول كيلو بعد كارتة الإسكندرية، حسبما روى لنا الكثير من المهاجرين .
وخلال التخزين في المزرعة التي يملك صاحبها فيلا بالقرب منها، يُسلب المهاجرين من كل متعلقاتهم الشخصية، فقط ينتظرون القليل من الخبز المتعفن والطعام الذي تأنف منه الأعين وتتقيء منه البطون، يحضره لهم المهرب، وبعد أيام تطول أو تقصر مدتها بحسب تجهيز الرحلة وفقا لتأمين الحدود والأحوال الجوية، يتم نقل المهاجرين في سيارات "لوري" إلى الميناء.
أماكن أخرى ذكرها أحد المهاجرين، منها كافتريا عند الكيلو 121 على طريق مصر إسكندرية الصحراوي، قال إنه مكث فيها لمدة 5 أيام ومعه عشرات آخرين، فهي مقسمة إلى غرف كل قسم فيه "قعدات عربي" وشاشة تلفزيون.
في مساء إحدى ليالي التخزين هاجمت الشرطة الكافتريا، وألقت القبض على عدد منهم قبل تمكن "السماسرة" من تهريب الآخرين وإرسالهم إلى التخزين في شارع 45 بالإسكندرية، حسبما يروي ، لافتا إلى أن هناك كافتريا أخرى بعد تبعد عن الاولى بنحو 100 متر تستخدم للتخزين أيضا.
دور الحكومة
وفي مقابل روايات المهاجرين ممن تواصلنا معهم، التي تشير بأصابع الاتهام إلى تورط بعض عناصر بخفر السواحل في السماح بعبور المراكب، إما تغافلا عن دورهم أو قبول بعضهم للرشوة، تعلن القوات المسلحة مرارا عن إحباط مئات المحاولات للهجرة غير الشرعية، إلى جانب ما تقوم به وزارة الداخلية من القبض على العديد من سماسرة الهجرة.
ومؤخرا صرح اللواء علاء الدين شوقى مساعد وزير الداخلية ومدير أمن البحيرة، إن الأموال العامة والأمن العام تمكنا من القبض على نحو 80 من سماسرة الهجرة غير الشرعية، من بينهم المتورطين فى حادث غرق مركب رشيد.
جهود أخرى اتجهت إليها الدولة مؤخرا للحد من الهجرة غير الشرعية بعد تنامي تلك الظاهرة وتفاقهما بشكل كبير في السنوات الأخيرة، حتى باتت مصر في صدارة الدول المصدرة للهجرة غير الشرعية .. المزيد