اعتذار إلى مرقص أفندي

اعتذار إلى مرقص أفندي

أثناء لقاءٍ لقراءة فاتحة بنت أحد الأصدقاء، قال لى والد العريس: (قد تتعجب إذا قلتُ لك إن مَنْ زَكَّى لنا العروس وشَهِد بحسن أخلاقها أحدُ زملائها فى العمل .. اسمه مايكل .. هو مسيحى لا مؤاخذة .. لكننى على مدى عشر سنوات من التعامل بين شركتى ومؤسستهم أشهد له بالأمانة والصدق، فلم أثق فى غيره ليتحرى عن الفتاة وأسرتها .. فكانت شهادته هى الفيصل ..لا مؤاخذة مرَّةً أخرى فهذه هى الحقيقة).

 

قالها الرجل الطيب وكأنه يبرر أو يعتذر لى عن اعتماده على شهادة مايكل بعد أن لاحظ "الزبيبة" فى جبهتى .. قلتُ له (لا يوجد ما تعتذر عنه يا أخى الكريم .. أليس الشاب مايكل أميناً وصادقاً باعترافك؟ إذن ما دخل الديانة فى شهادته؟ وهل كنتَ ستأخذ بشهادة لصٍ لو اسمه محمد؟) .. أراحت إجابتى الرجلَ الذى تصرَّف بفطرته المصرية الطبيعية .. لكننى سرحتُ فى كيف تسللت إلينا عبارة (مسيحى لا مؤاخذة) واقتحمت ثقافتنا بنعومةٍ خبيثةٍ فى عمليةٍ هجوميةٍ استمرت نحو نصف قرن.

 

شاهدتُ مثلكم فيلم "أم العروسة" مراتٍ كثيرةً .. وليسامحنى الناقد الكبير (علماً ومقاماً) طارق الشناوى فأنا لا أجرؤ على الاقتراب من ساحة النقد الفنى الذى أفتقر إلى أدواته .. أنا هنا أُعَّبِرُ فقط عن انطباعاتى كمُشاهد.

 

لم أرَ فى الفيلم أثراً لقصةٍ أو حبكة درامية رغم أن مؤلفه عبد الحميد جودة السحار .. ليس فيه حكاية .. فالفيلم كله عبارة عن رجلٍ وزوجته يُزوجان ابنتهما .. بكل تفاصيل الزواج من تَقَّدُمٍ ثم قُبولٍ ثم جهازٍ ثم فرح .. لكن قيمته الحقيقية هى أنه أقرب لفيلمٍ تسجيلىٍ به توثيقٌ صادقٌ بغير تَكَّلُفٍ أو افتعالٍ لنمط الحياة السائد فى مصر فى تلك الأيام (الفيلم إنتاج 1963) .. من حيث الملابس، وخطوات مصاهرة العائلات بما فيها "تلقيح الكلام" من الحموات، ومستلزمات جهاز العروس وأماكن شرائها، ومشاكل الموظفين، والبيروقراطية، وعلاقات العمل .. إلخ.

 

فى هذا السياق كانت علاقة مرقص أفندى بحسين أفندى طبيعيةً وغير مُقحَمة على الفيلم ودون ذِكرٍ للوحدة الوطنية كما يحدث فى كثيرٍ من الأفلام .. علاقة بين زميلين لا شأن للديانة بها (ولولا اسماهما ما عرفنا ديانتهما) .. تأخرت إجراءات استبدال مائةٍ وخمسين جنيهاً من معاش أحدهما فأخذها من العُهدة وائتمن زميله على هذا الخطأ الوظيفى .. فعالج زميلُه هذا الخطأ من جيبه دون أن يُخطره .. كُلُّنا يتذكر هذا المشهد بالطبع .. لكن واقعة مايكل التى بدأتُ بها المقال ذّكَّرَتنى بمشهدٍ مماثلٍ ولكن ليس فيه (لا مؤاخذة) عندما طلب حسين أفندى من مرقص أفندى أن يتحرى عن عريس ابنته المنتَظَر .. ولو قُدِّر للسحار وعاطف سالم أن يُكملا الفيلم فلربما كنا شاهدنا مرقص أفندى أيضاً يطلب من حسين أفندى أن يتحرى عن عريس ابنته بل يدعوه لجلسة التعارف الأُسَرى الأولى.

 

ولو وصلوا إلى 7 يناير (مثل غدٍ- كل عامٍ وأنتم بخير) كُنَّا سنراهما يتبادلان التهنئة وحسين أفندى يستحث مرقص أفندى ضاحكاً ومداعباً (الكحك الجميل بتاع الحاجَّة أم جورج اتأخر ليه السنة دى؟) .. كانت مصرُ طبيعيةً فى تلك الأيام .. أحمدُ اللهَ اننى عِشتُها .. كانت الكنائسُ تُبنى ويتبرع لها مسلمون .. والمساجد تُبنى ويتبرع لها مسيحيون .. وعندما بلَغتُ وأخى سِنّ الحضانة، لم يجد أبى القاضى الأزهرى شديد التديّن أىَّ حرجٍ فى أن يُدخلنا حضانةً تملكها وتُديرها جمعيةٌ خيريةٌ مسيحية .. وعندما أراد أن يُلحقنا بنادٍ رياضىٍ لم يتردد فى اختيار النادى الأقرب وتصادف أنه نادى جمعية الشُبّان المسيحية رغم وجود نادٍ لجمعية الشُبّان المسلمين .. فى هذه الأيام ..كُنّا ولا زلنا مجموعةً مُتلاحمةً من أصدقاء الطفولة والدراسة والجيرة بلا عُقّد .. شديدى التديّن وشديدى الترابط فى آنٍ واحدٍ ..ولا شأن لأىٍ منا بعقيدة الآخر .. فقد تربينا على: لكم دينكم .. ولِىَ دين .. ولنا وطنٌ نملكه معاً ولنا فيه نفس الحقوق .. كان هناك متعصبون فى كل فريقٍ بلا شك .. ولكن العقلاء كانوا أكثر كثيراً.

 

لم يكتمل الفيلم على الشاشة ولكنه اكتمل على أرض الواقع بمؤلفٍ ومُخرِجٍ وأبطالٍ جُدُد وبصورةٍ مغايرة مُخجلة أوصلتنا بعد نصف قرنٍ إلى (مسيحى لا مؤاخذة) .. لا أعتقد أن أيَّاً من أبطال الفيلم الأصلى كان يتصور أن سيأتى زمان يُحَّرِم فيه أحد المصريين تهنئة حسين لمرقص .. ولا أظن أن حسين أفندى قد تَخيَّل (مجرد تخيُّلٍ) أن بعضاً من ذريته سيظلمون ويقهرون أخاه مرقص أفندى ذات يومٍ .. أمَّا الظلم فهو أن يستأسدوا عليه ويعتدوا عليه ويمنعوه من الصلاة .. أما القهرُ فهو أن يُجبَرَ مرقص أفندى على التنازل عن حقه والتصالح مع ظالميه.

 

أما آن لحسين أفندى أن يَرد جميل مرقص أفندى؟